ما أكثر الغرامات في بلادنا, وما أكثر الأخطاء أيضا. عجزت الغرامات عن أن تردنا عن الخطأ. العمارات الشاهقة المخالفة ترتفع في كل يوم. المهووسون بالقيادة السريعة ينشرون الرعب علي الطرق. الدماء البشرية معروضة للبيع.. والأعضاء البشرية كادت تلحق بها. شوارعنا طرقات انتظار للسيارات تعيد حركة السير فيها إلي ما قبل عصر البخار. نفايات المنازل والمصانع والمستشفيات تمل الطرقات. قائمة طويلة من الأخطاء التي نتسامح معها بالغرامات المالية فقط. دائرة خبيثة دخلناها في عصر الانتصار الرأسمالي الذي زحفت فيه الأسواق علي قيمنا وأخلاقياتنا فأعادت صياغتها كما قال مايكل ساندل الفيلسوف الأمريكي وأستاذ الحكومات في جامعة هارفارد ضمن محاضرات جون ريث هذا العام, التي أشرت إليها في المقالة السابقة. اختلط مفهوم الرسوم بمعني الغرامة. كلاهما مال يؤدي دون النظر إلي أن الرسوم تدفع مقابل شيء لا ينطوي علي مخالفة أخلاقية. أما الغرامة فتدفع جزاء عمل ينطوي علي مخالفة ذات معني أخلاقي يرفضها المجتمع ولا ينبغي التجاوز معها بحفنة من الأموال مهما بلغت. في الصيف الماضي وقفنا أمام واحد من الكمائن التي تراقب السرعة علي الطريق الصحراوي.. أخرج الرجل في السيارة المجاورة مبلغ150 جنيها دفع بها في غير اكتراث لرجل الشرطة متعجلا الحصول علي رخصته التي تم سحبها وتلقي وصلا ألقي به علي الأرض قبل أن يتحرك بسيارته سعيدا ضاحكا. قد كان ينطلق بسرعة تجاوزت160 كيلومترا. دفع جنيهات ومضي وتركني أتساءل: هل دفع الرجل غرامة أم رسوما؟! فالسرعة الزائدة وما تسببه من مخاطر, وماتثيره من رعب علي الطريق هي مخالفة تنطوي علي انتهاك شيء من الأخلاق اللازمة لاستخدام الطرق, ولا يمكن أن تكون عقوبة انتهاك الأخلاق مجرد مبلغ من المال. سوف يحتج علينا أساتذة الاقتصاد دفاعا عن قيم السوق بحجج تتنكر كثيرا للبعد الأخلاقي اللازم لحياة البشر. أعود لمحاضرة ساندل وما ضربه من أمثلة منتشرة بين جميع المجتمعات في العالم. ما المعني النهائي لتقديم حوافز مادية للذين يتفوقون في الدراسة؟ وما الغاية النهائية من دفع دولارين عن كل كتاب يقرؤه التلميذ في مدارس تكساس؟ وماذا تعني حلول جاري بيكر الفائز بجائزة نوبل في الاقتصاد, وأستاذ آخر للقانون في جامعة أمريكية مرموقة لمشكلة الهجرة من الدول الفقيرة إلي الدول الصناعية؟ وماذا تعني مقترحات الغرب بحق الدول الغنية في شراء الحصص المسموح بها للدول النامية من الغازات المسببة للاحتباس الحراري؟ جميعها تستخدم حوافزالسوق لحل مشكلات, كما تري, كلها اجتماعية, ولكن كيف يري ساندل هذه الحلول بعيدا عن حوافز السوق المادية؟ الهدف من الحوافز المادية للتلاميذ هو التشجيع للحصول علي درجات أعلي أو قراءة كتاب جديد. نتعلم من الاقتصاد أن الناس أينما كانوا يستجيبون للحوافز, وإذا كان البعض يقرأ كتابا أو يحصل علي درجات أعلي حبا في التعلم, فإن البعض الآخر ليس لديه هذا الحافز, فلماذا لا نستخدم المكافأة المادية كحافز إضافي. وحافزان أفضل في كل الأحوال من حافز واحد, غير أن الحوافز المادية المستمدة من فلسفة عمل السوق ليست بريئة, فما يبدأ كأداة من أدوات السوق يصبح في النهاية مرجعا ومعيارا من معايير الحكم علي الأشياء, والتعامل مع الحياة. المخاوف هنا أن المكافآت المادية تجعل الأطفال يقبلون علي قراءة الكتب كوسيلة لكسب الأموال, ومن ثم تتراجع القيمة الحقيقية للقراءة, وتختفي متعة القراءة ونشوة التفوق. انظر إلي ما يقوله جاري بيكر الفائز بجائزة نوبل في الاقتصاد بشأن سياسات الهجرة. يقترح ما بين50 و100 ألف دولار ثمنا للجنسية الأمريكية يدفعها الراغبون في الهجرة إلي الولاياتالمتحدة. والراغبون في الهجرة ودفع هذه المبالغ لابد وأن يكونوا صغار السن من ذوي المهارات طموحين وغير راغبين في الحصول علي الدعم المقدم لكبار السن, أو الذين يعانون البطالة فتتحلل الحكومات من كثير من النفقات. هذا حل اقتصادي لكنه يحيل المواطنة إلي سلعة. ربما يري البعض مقترحات بيكر قاسية ولا إنسانية. انظر إلي حل آخر لمشكلة المهاجرين جاء به منطق الأسواق. هذه المرة علي لسان أستاذ قانون أمريكي يري أن ينشأ صندوق أو جهاز دولي يحدد لكل دولة حصة من عدد المهاجرين استنادا إلي الثروة القومية ويسمح للدول ببيع وشراء هذه الالتزامات فيما بينها. فإذا خصص لليابان مثلا20.000 مهاجر سنويا, لكنها لا تريد ذلك, فإنه يمكنها أن تدفع لبولندا أو أوغندا مقابل أن تسمح لهم بالهجرة إليها. وطبقا لمنطق السوق فالكل مستفيد تحصل بولندا وأوغندا علي مصدر جديد للدخل الوطني, واليابان تتخلص من الالتزام بدخول20.000 مهاجر سنويا. ربما يبدو الاقتراح مريحا للبعض لكنه ينطوي علي اعتبارات لا أخلاقية حين تضيع في صفقات البيع والشراء حقيقة أن اللاجئين هم كائنات بشرية يتهددها الخطر, وإخضاع اللاجئين لمنطق الأسواق يعني أن تلك الأسواق لم تعد مجرد آلية اقتصادية, وإنما قوة تتولي صياغة قيم ومعايير أخلاقية, وتعيد مرة أخري مأساة عصر تجارة الرقيق. وفي مسألة الاحتباس الحراري يتساءل ساندل: هل ينبغي أن تضع الحكومات حدودا لانبعاث الغازات وتفرض الغرامات علي الشركات التي تتجاوز هذه الحدود؟ أم عليها أن تعمل علي تنظيم التجارة في تصاريح الملوثات بين الشركات؟ بمنطق السوق لكل شركة الحق في أن تشتري الحصة المسموح بها لشركة أخري من الغازات الملوثة للهواء, فهذه تجارة, لكن الأمر يتطلب ما هو أكثر من حساب التكلفة والأرباح. الأمر يتطلب فضح الشركات التي تصيب الهواء بالتلوث, وعلينا أن نقرر قبل أن نجيب علي أي من السؤالين أن نختار أي هذين السلوكين نشجعه نحو البيئة؟ انظر إلي قضية أخري وهي قضية التبرع بالدم, أجري عالم الاجتماع ريتشارد تيتموس مقارنة بين نظام التبرع بالدم في الولاياتالمتحدة حيث يسمح بالبيع والشراء, والنظام البريطاني الذي يحظر أي حوافز مالية ويعتمد كلية علي التبرع الذي هو في المقام الأول قيمة أخلاقية, وجدت الدراسة أنه بدلا من تحسين نوعية الدم وكميته في الولاياتالمتحدة كان الواقع يتجه نحو نقص إمدادات الدماء المطلوبة من حيث الكمية وانتشار الدماء الملوثة, وكان تعليقه النهائي أن الحصول علي الدم مقابل المال تحول به من منحة أخلاقية إلي سلعة معروضة للبيع, وحينما سادت عمليات البيع والشراء في الأسواق أصبح الناس أقل شعورا بالالتزام الأخلاقي الذي يفرض التبرع بالدم حبا للغير, وتعبيرا عن الإيثار. العالم بعد الفشل الرأسمالي يبحث عن فلسفة جديدة. شيء من هذا وجدته في محاولة الدكتور محمد شبل الكومي تطوير فلسفة واقعية روحية يلتزم فيها الناقد والفيلسوف بالروح الحية وعالمها الرحب. فلسفة تتجاوز النزعة العقلية المتطرفة وما أدت إليه من مثالية مجردة تقف بصاحبها موقف الرافض المطلق للعالم الواقع, فمهدت الطريق أمام الاستعلاء والعنصرية. فلسفة الدكتور الكومي تنظر إلي الوجود نظرة شمولية تجمع الوجود المادي, والوجود الروحي معا حيث الروح والمادة ماثلان في كل شيء, والاتفاق بين ساندل وشبل الكومي ليس في تفاصيل فلسفة كل منهما, فما يجمع بينهما هو محاولة الخروج من المأزق الذي وجدنا أنفسنا فيه حين تبادلت الفلسفات الغربية المادية عند ماركس, والعقلية عند ديكارت من صياغة فكر العالم بأسره, فعشنا معهما عصورا من الأزمات.