كانت هناك في أحد الأماكن بئر عميقة, وظلت لزمن تغمرها ظلال الافتقار إلي بعض القرائن الدالة, التي تكشف عما يتواري وراء التباس وظيفة وجودها, إذ لم يكن من المعروف ما إذا كان بداخل البئر ماء أو لا. تري هل تحوي البئر ماء, أم تحوي أشياء لاتعرف لظمأ الإنسان والحقول ارتواء؟ حاول من يعيشون علي تلك الأرض التي انبثقت فيها البئر معرفة سر التباس وجودها, صحيح أنه قد يكون سهلا علي الإنسان أن يعرف, لكن الصحيح أيضا أنها قد تكون معرفة مغدورة, تتبدي في شكل سلطة غواية براقة, تقيد الإنسان بقيود مضمرة, فيصاب بسببها بمغارم قد لا يستطيع بعدها أن يجد الطريق إلي أي مغانم. بل قد تودي بحياته, لذا فإنه من الصحيح أن يدرك الإنسان أولا كيف يعرف, مهما كانت بداهة الوقائع وغوايتها, حيث لا سلامة في معرفة لا تستوعب بوعي آليات التفكير, ونسيجه, ومستوياته, ومنهجياته التي تستولد الإلمام والإحاطة بأفق المستقبل والحاضر, إذ تظل هذه المعرفة رقيبا علي الأحداث, وحسيبا لدلالاتها, فتنتج حزمة ممكنات لكشف المجهول ومواجهته, ولا تنخدع باستدراجات الغواية, بل تعمل علي تفكيكها, متحررة من تأثيراتها, لكن يبدو أن بعض من يعيشون علي تلك الأرض التي تنبثق فيها البئر, قد وقعوا في شرك استقطاب معرفة تبدت في أدني مستوياتها, تتخطي قدراتها حيل المجهول القابع في عمق البئر, ومع ذلك راهنوا بها علي بلوغ هدفهم, بل اشتطوا في الثقة بها دون انتباه علي عجزهم عن إنتاج تصور لنتائج مترصدة ومستكرهة, قد لا يملكون التحرر من إكراهاتها, وفي سياق هذا النموذج العاجز للمعرفة, ربطوا أحد الأشخاص بحبل حول وسطه, لإنزاله داخل البئر, ليعرف ما إذا كان هناك ماء, وذلك دون اشتغال لملكات العقل المعرفية, التي تبدع مقاربات تتجاوز المعطيات المطروحة, وآفاقها المحجوبة, خلاصا من التورط في خسارة ما لا يحتمل خسرانه. ولأن البئر بحدها المرئي لا تكشف عن مجهول أعماقها, ولأنه مهما كانت توقعات الناس وتصوراتهم عن ذلك المجهول, فإنهم لا ينجون من أخطاره, ولا يحققون نصرا محسوما, إلا بما تطرحه أدواتهم المعرفية من ممكنات وبدائل, بوصفها مقاربات فهم تكشف حقيقة المجهول دون الوقوع في فخاخ مداهماته, لكن يبدو أن الرجل الذي ربطوه, تمهيدا لإنزاله داخل البئر, قد اكتفي بتصوراته عما في أسفل البئر, فأعلن خوفه من أن التنين الكامن في أسفل البئر, سوف يقطع رأسه عند نزوله. صحيح أننا حين نفعل, يفعل بنا في الآن نفسه, وصحيح أن الفعل يقيم باستتباعاته الخطيرة, لكن الصحيح كذلك أن الرجل مع ذلك لم يعمل عقله, ولم يوظف أدواته المعرفية لتخطي الخطر القادم, بل إنه حتي لم يرفض النزول إلي البئر, وأيضا في ظل امتناعه عن الفهم الخالق للمعرفة, قد قبل المجازفة تحت سطوة تبريرات الناس من حوله, الذين راحوا يطمئنونه بمطاردة خوفه, والوعد بإنقاذه شرط هزه الحبل عندما يلمح التنين, عندئذ سيسحبونه علي الفور خارج البئر. لاشك أن هذا القدر من النأي والاستغلاق عن الفهم, وأيضا الإصرار علي أن ذلك السلوك هو الجدير بقبوله بالضرورة, ثم المغالطة بجعله مقبولا, يكشف عن فساد ذهن لا يدرك الأبعاد الحقيقية للأمور, وينظر إليها مستقلة عن كل ملاحظة, دون تشجيع قوي العقل علي إبداع آليات دفاعه المضاد, في مواجهة بئر يسكن أغوارها مجهول يخادع, يتربص بالأغرار الذين يتورطون في قبول النزول إليه, سواء عن جهل, أو عن جموح, أو عن هوي مستتر لذلك القبول. أنزلوا الرجل إلي داخل البئر, فإذ بهم يرون الحبل يهتز بشدة, وتلك دلالة رؤية الرجل للتنين الكامن في أعماق البئر, ماثلا في الأغوار, يتواري عن أنظار الذين لا يعقلون, فأصابهم العماء, ولاشك أنهم بذلك يتسترون علي الشر بغياب كيفية إدراكهم وجوده, بما يضاده من فهم يحررهم من فخاخه. علي الفور شد الناس الحبل المربوط به الرجل, فإذا بهم يرون الرجل ملقي أمامهم بلا رأس, وبرغم بديهية البرهان المادي علي موت الرجل بقطع رأسه, فإن سلطان التجربة الآنية أصبح موضوعا للنقاش, إذ استبعد بعضهم الدليل الحاسم علي موت الرجل بمنطق عابث, ذلك بادعائهم أن ذلك الرجل لم يكن له رأس. صحيح أنه في الوهلة الأولي قد نتساءل: أي منطق ياتري يحكم تلك العقول؟ وأي ذهن يتبجح متملصا من بداهة اليقين, ويواجه الاستدلال المادي الموثوق بيقينه أقصي يقين برفضه, والاعتراض عليه بنفيه, فارضا أن هناك إنسانا يستطيع ممارسة الحياة واقعيا بلا رأس؟ لكن الصحيح كذلك أنه يتأمل هذا التداخل الكبير والمثير بين الواقعي والمتخيل, والمقابلة بينهما, يتبدي كما لو كان نوعا من المعارضة تواجه حدثا يغيب عنه كل ما هو عقلاني, ويخلو من المعني والقيمة, وتحيط به مخاطر رهيبة, لذا راحت هذه المعارضة تطرح الاستحالة المنطقية كاختلاف محفز في محاولة لاستنهاض استعادة التماسك العقلاني الواعي ودلالته الرأس, الذي يؤمن جهاز الاستدراك المعرفي الإنساني في مواجهة الفعل المطروح علي الواقع, فيفرض سلطته الناظمة عليه تفاديا لمخاطره المجهولة, لا خلاف أن هذا المصير المفجع نتيجة قبول الرجل النزول إلي أسفل البئر, برغم تصوراته عنها, ثم قطع رأسه, يجعلنا نتساءل: هل هذه الصورة المتناقضة الغامضة التي يطرحها أصحاب رأي أن الرجل لم يكن له رأس, تعني خطاب إدانة للرجل علي قبوله النزول, دون أي استدراك معرفي لمعني نزوله, واستتباعاته, بل أيضا خطاب إدانة لكل من كانوا يبررون له قبول نزوله, دون حضور لمنظور تتجلي من خلاله ممارسة عقلانية تستشرف مستقبل هذا الخيار؟ دب بين الجميع الخلاف, لكنهم في النهاية اتفقوا علي الذهاب إلي زوجة الرجل المقطوع الرأس, وفي حضورها سألوها: قولي لنا هل كان لزوجك رأس؟ فأجابت الزوجة: طبعا كان له رأس, لأنه في أحد الأيام ذهب لكي يضع طربوشه في القالب! إن غرابة الإجابة لا تعني أنها إجابة مغلوطة, لكنها تعني أن ذلك الرأس لم يكبد نفسه يوما عناء التفكير, وكانت دلالة وجود رأس فقط عندما يعتمر الطربوش, وما دون ذلك خواء, يحمل الرجل خواء رأسه تحت الطربوش ويمضي في الحياة, لا يدرك معني امتداد التفكير, فأهدر بذلك وجوده حين اكتفي بقبول الهبوط إلي أسفل البئر دون فهم أو إدراك لمصيره المحتوم. إن أقصوصة البئر لكاتب البوسنة الشهير إبريشيموفيتش, المولود عام1940, تؤكد أن الرأس لا يقيم, ولا يوزن, أو يقدر بما يعتمر إذا كان طربوشا, أو عمامة, أو قبعة, أو غيرها مما يسدل عليه, بل إن رهان وجود الرأس بمدي ممكنات ممارسته التفكير, والاشتغال علي تحصين مقومات الذات, وتحريرها من انغلاقها أو من أوهامها, والاشتباك مع الواقع, والإنصات إلي تحولاته, وإدراك كل ما هو قائم من الأحداث, وما سوف يقوم, والوصول إلي اللامكتشف, وتفكيك شفرات الدلالات في مساحات الحياة, لذا قطع رأس الرجل لأنه لم يكن رأسا, بل محض طربوش, وذلك ما حدا ببعض المتنورين من الناس, عندما أدركوا أن الرجل قد خسر رهان الوجود, بافتقاده إعمال العقل, وحيوية التفكير, ولم يعد بذلك قادرا علي سوي الرضوخ, وإعلان القبول بالنزول إلي أعماق البئر المجهولة, وحين خرجت جثته من البئر مقطوعة الرأس, راح هؤلاء المتنورون يعلنون أن الرجل أساسا لم يكن له رأس, والمسكوت عنه فيما أعلنوه أن الرجل لم يعتصم بالعقل المدرك, وفضل القطيعة مع التفكير, إذ استعمره عقل مستقبل حرمه فهم معني المصير, لذا أعلن القبول, فكانت فعلته تلك نقمة نفسه علي نفسه. تري هل قبول القيادي في حركة حماس محمود الزهار لخطة ليبرمان, يعد نقمة علي الزهار شخصيا, أم نقمة علي مصير شعب فلسطين؟ لقد أعلن الزهار أنه يرحب بهذا الأمر شخصيا, ويريد الانفصال التام عن إسرائيل, وأنه يفضل أن تترك مصر هذا الملف لحركة حماس, وهم يسوون حالهم مع إسرائيل, لكن يبدو أنه في قبوله مجهول خطة ليبرمان, قد غابت عنه حقائق المصير, ففي السياسة ليس هناك من شيء مرتجل, حتي صناعة العداء, فإسرائيل بممارساتها المتعسفة, وهجومها المتكرر علي غزة, وآخرها هجوم البحرية الإسرائيلية علي أسطول الحرية في المياه الدولية, وهو في طريقه من تركيا نحو قطاع غزة, وبالشكل الفاضح للقوة العارية من أي كساء, لم يكن ذلك فعلا مجانيا مرتجلا, بل كانت خطة لصناعة حالة من الاستنفار للمجتمع الدولي ضد إسرائيل, يشكل إحراجا لممارستها في غزة, عليها بعد ذلك أن تبرأ منه, وانتهت لعبة إسرائيل, كما أرادت لها, من تصاعد الرأي العام العالمي ضد ممارساتها في غزة, وأصبحت إسرائيل أمامه مطالبة بالاستبراء, أما السكوت عنه الذي يشكل جوهر لعبة إسرائيل, هو انتزاع غزة من أصلها الواحد الفلسطيني والجغرافي, ثم إطلاقها لتصبح جذرا منفصلا, فتضيع بذلك الأصول وتتعدد, وتتهاوي في الانقسام والتقسيم. علي الجانب الآخر, وفقا لخطتها في ترويج وهم الاستبراء, وعقب هجومها علي أسطول الحرية, حددت إسرائيل تحركا جديدا, ظاهره رأب الصدع الذي اصطنعته في علاقتها الدولية, بتخليها عن احتلال غزة عسكريا, بوصف ذلك خيارا لاستقلالها, وهو علي الحقيقية استعادة لاستمرار سيطرتها بدوام الانقسام والتقسيم. نشرت تسريبات عن خطة ليبرمان, وروجت لتؤكد أن إسرائيل لا تسعي إلي استمرار احتلال غزة, إذ ركزت هذه التسريبات علي قاعدة طرح التزامات إنسانية, تمثلت في تجليات المساعدة الإسرائيلية للحفاظ علي بقاء غزة, وذلك بعزم إسرائيل علي بناء محطات للكهرباء, وأخري للمياه. صحيح أن هذه التسريبات تبدو معاكسة لوقائع الممارسات الإسرائيلية علي شعب فلسطين في غزة, لكن الصحيح أنها, وفق دهاء المخطط, تعد آلية دلالات موسعة, فهي بمثابة إغواء وترغيب, وهي أيضا استدلال يشير إلي الالتزام بتأمين حياة أهل القطاع إنسانيا, ثم هي كذلك تبدو حالة استبراء من العنف والاحتلال, وفي المقابل تطلب إسرائيل اعترافا دوليا بإنهاء مسئوليتها عن غزة كدولة احتلال, ذلك هو المجهول الكامن في أسفل البئر لمن يريد القبول بالنزول ليخسر الشعب الفلسطيني رهان وجوده, ويبدد مسيرة نضاله, إذ سوف تقطع رقبة من يقبل النزول إلي ذلك التنين صانع العزل والتفتيت. ويبدو أن المحتجب أيضا عن الزهار أن مصر لا يصوغ وجودها ويحسم قضاياها سوي شعبها, ومسئولية قيادتها التي تمد الجسور بين الضفاف دون انفلات أو إفراط, لا تسد الطرق, لكنها تترصد منافذ الاختراق, تملك خيار الخارج والداخل, فتتداخل وتتخارج وفقا لمبادئها, دون إملاءات, لا تنفي مساحات الاختلاف, وتتداول بمسئولية الإقناع, تواجه صفاقة الوقائع بالحسم الواعي المسكون بالاقتدار, تبذل العون والرعاية بضمان يقين الاستحقاق, تنبه للأخطار, وتنصح ولا تهدد, تسعي إلي التوافق, تمارس الوساطة معتصمة باستحقاقات العدالة, تحاسب بسلوك المسئولية, وليس بسلوك الانتقام, ولا تصدر الالتباسات والتآمرات, ومصر تتعالي علي أساليب الإغاظة, وممارسة الاجتراء الكلامي, لكنها تتصدي بالحزم دفاعا عن ثوابتها المشروعة والمطلقة, وترفض كل ذرائع التجزئة لأنها خارج حدود الحق الفلسطيني.