واشنطن تعلن التصدي لصاروخ حوثي يستهدف على الأرجح سفينة ترفع العلم الأمريكي    أمريكا تضغط على إسرائيل على خلفية مزاعم بشأن قبور جماعية في مستشفيين بقطاع غزة    إيران وروسيا توقعان مذكرة تفاهم أمنية    بعثة الزمالك تسافر إلى غانا اليوم على متن طائرة خاصة استعدادًا لمباراة دريمز    فرج عامر يكشف كواليس «قرصة ودن» لاعبي سموحة قبل مباراة البلدية    عاجل.. أسطورة ليفربول ينتقد صلاح ويفجر مفاجأة حول مستقبله    بعد إعلان الرئيس السيسي عنها.. ماذا تعرف عن البطولة العربية العسكرية للفروسية؟    «أتربة عالقة ورياح».. الأرصاد تحذر من حالة الطقس اليوم وتكشف أماكن سقوط الأمطار    اخماد حريق هائل داخل مخزن أجهزة كهربائية بالمنيا دون إصابات بشرية (صور)    عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير.. أسعار الذهب اليوم الخميس 25 إبريل 2024 بالصاغة    صندوق التنمية الحضرية يعلن بيع 27 محلا تجاريا في مزاد علني    أحمد موسى: مطار العريش أصبح قبلة للعالم وجاهز لاستقبال جميع الوفود    تحظى ب«احترام غير مبرر».. اتهام مباشر لواشنطن بالتغاضي عن انتهاكات إسرائيل    تخصيص 100 فدان في جنوب سيناء لإنشاء فرع جديد لجامعة السويس.. تفاصيل    الليلة.. أدهم سليمان يُحيي حفل جديد بساقية الصاوي    هل يجوز قضاء صلاة الفجر مع الظهر؟.. «الإفتاء» تحسم الجدل    حصول 5 وحدات طب أسرة جديدة على اعتماد «GAHAR» (تفاصيل)    رئيس قسم الطب النفسي بجامعة الأزهر: تخصصنا يحافظ على الشخص في وضعه الطبيعي    رئيس «الطب النفسي» بجامعة الإسكندرية: المريض يضع شروطا قبل بدء العلاج    بعد نوى البلح.. توجهات أمريكية لإنتاج القهوة من بذور الجوافة    اسكواش - ثلاثي مصري جديد إلى نصف نهائي الجونة الدولية    "منافسات أوروبية".. جدول مباريات اليوم والقنوات الناقلة    كرة السلة، ترتيب مجموعة الأهلي في تصفيات ال bal 4    منسق مبادرة مقاطعة الأسماك في بورسعيد: الحملة امتدت لمحافظات أخرى بعد نجاحها..فيديو    الاحتلال يعتقل فلسطينيًا من بيت فوريك ويقتحم بيت دجن    تيك توك تتعهد بالطعن في قانون أمريكي يُهدد بحظرها    بعد اختناق أطفال بحمام السباحة.. التحفظ على 4 مسؤولين بنادي الترسانة    "مربوط بحبل في جنش المروحة".. عامل ينهي حياته في منطقة أوسيم    الهلال الأحمر: تم الحفاظ على الميزانية الخاصة للطائرات التى تقل المساعدات لغزة    ريهام عبد الغفور عن والدها الراحل: وعدته أكون موجودة في تكريمه ونفذت    30 صورة وفيديو من حفل زفاف سلمى ابنة بدرية طلبة بحضور نجوم الفن    مش بيصرف عليه ورفض يعالجه.. محامي طليقة مطرب مهرجانات شهير يكشف مفاجأة    الرئيس الموريتاني يُعلن ترشّحه لولاية ثانية    كيف أعرف من يحسدني؟.. الحاسد له 3 علامات وعليه 5 عقوبات دنيوية    دعاء في جوف الليل: اللهم أخرجنا من الظلمات إلى النور واهدنا سواء السبيل    محافظ شمال سيناء: منظومة الطرق في الشيخ زويد تشهد طفرة حقيقية    توجيهات الرئيس.. محافظ شمال سيناء: أولوية الإقامة في رفح الجديدة لأهالي المدينة    محافظ شمال سيناء: الانتهاء من صرف التعويضات لأهالي الشيخ زويد بنسبة 85%    التطبيق خلال ساعات.. طريقة تغيير الساعة على نظام التوقيت الصيفي (بعد إلغاء الشتوي)    ما موعد انتهاء مبادرة سيارات المصريين بالخارج؟.. وزيرة الهجرة تجيب    وزيرة التضامن: المدارس المجتمعية تمثل فرصة ثانية لاستكمال التعليم    رئيس تحرير «أكتوبر»: الإعلام أحد الأسلحة الهامة في الحروب    فريد زهران: نسعى لوضع الكتاب المصري في مكانة أفضل بكثير |فيديو    حظك اليوم برج الميزان الخميس 25-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    اختيارات النقاد.. بعد سيطرة الكوميديا ما هى الأفلام الأنسب لموسم العيد؟    ارتفاع الذهب اليوم الخميس.. تعرف على الأسعار بعد الزيادة    تأجيل بيع محطتي سيمنز .. البنوك الألمانية" أو أزمة الغاز الطبيعي وراء وقف الصفقة ؟    إصابة أم وأطفالها الثلاثة في انفجار أسطوانة غاز ب الدقهلية    الزكاة على أموال وثائق التأمين.. الإفتاء توضح أحكامها ومتى تجب    ميدو: لاعبو الزمالك تسببوا في أزمة لمجلس الإدارة.. والجماهير لن ترحمهم    غادة البدوي: تحرير سيناء يمثل نموذجًا حقيقيًا للشجاعة والتضحية والتفاني في سبيل الوطن    من أرض الفيروز.. رسالة وزير العمل بمناسبة ذكرى تحرير سيناء    «زى النهارده».. عيد تحرير سيناء 25 إبريل 1982    الصحة تفحص مليون و413 ألف طالب ضمن المبادرة الرئاسية للكشف المبكر عن فيروس سى    مدير تعليم القاهرة: مراعاة مواعيد الامتحانات طبقا للتوقيت الصيفي    صور.. الطرق الصوفية تحتفل برجبية السيد البدوي بطنطا    بالفيديو.. أمين الفتوى: موجات الحر من تنفيس نار جهنم على الدنيا    10 توصيات لأول مؤتمر عن الذكاء الاصطناعي وانتهاك الملكية الفكرية لوزارة العدل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تجليات مصرية .. أسبلة الرحمة «1-2»
نشر في المصري اليوم يوم 27 - 08 - 2009

جميع النصوص المقدسة تضعه فى المركز، بدءًا من الكتاب المقدس لمصر القديمة «الخروج إلى النهار»، المعروف خطأ ب«كتاب الموتى»، التسمية التى أطلقها عليه علماء المصريات الإنجليز والتى أضرت بالمضمون، إذ إن الكتاب لا يكرّس الموت كنهاية، ولكنه دليل للمتوفى فى العالم الآخر، حتى يصبح مبرأً من الخطايا عبر خطوات عديدة، منها المثول أمام المحكمة الأوزيرية، حيث وزن القلب فى الميزان مقابل ريشة ماعت، التى تعنى العدل والنقاء، فإذا ثقل الميزان يلقى بالقلب إلى حيوان أسطورى يقف متأهبًا، وهكذا يجد الميت طريقه إلى الجحيم، أما إذا خفت موازينه وتعادلت الكفتان فإنه يصبح مبرأً من الذنوب فيمضى عندئذ إلى حقول يارو، أى الجنة طبقًا للمفهوم المصرى القديم، حيث السعادة الأبدية..
على جدران الفنان سنجم رع فى مقابر دير المدينة تصور لهذه الحقول، حيث الماء عنصر أساسى والزرع، بين الخطوات التى يمر بها المتوفى الإقرار بأنه لم يرتكب الذنوب الجسيمة، وأولها تلويث مياه النيل، كان لابد أن ينطق قائلاً:
«أنا لم ألوث ماء النيل..»
للماء القداسة فى الأديان الثلاثة، وفى الحضارة الإسلامية كان ومازال توفير الماء للناس سواء كانوا مقيمين أو عابرين من أجلّ الأعمال وأكثرها تقربًا إلى الله سبحانه وتعالى، جاء فى التنزيل العزيز:
«وجعلنا من الماء كل شىء حى..»
نلاحظ أن موضع الماء فى جميع المساجد يقع فى منتصف الصحن، أى فى المركز، ولابد أن يرتبط بالجمال، بل بأقصى آيات الجمال والدقة عبر الزخارف المنمنمة، أما آية الكرسى فنقرؤها دائمًا على القباب التى تظلل أماكن الماء.
عندما وضع القائد «جوهر» أساس القاهرة، وبعد وصول الخليفة المعز لدين الله، وأثناء تفقده موقع العاصمة الجديدة أبدى ملاحظة مضمونها أنها بعيدة عن النهر، عن الماء، كانت ملاحظة صحيحة ولكن يبدو أن «جوهر» وضع فى اعتباره الأسباب الأمنية أولاً، هكذا جاء بناء القاهرة بعيدًا عن النيل، عكس العواصم القديمة، بدءًا من منف، وحصن بابليون، ثم الفسطاط.. كان النيل يجرى أمام الكنيسة المعلقة وجامع عمرو مباشرة، مع الزمن تحرك غربًا، وحتى زمن المقريزى، أى فى القرن الخامس عشر الميلادى، كان المجرى مكان شارع عمادالدين وباب الحديد الآن.
بناء العاصمة بعيدًا عن النهر اقتضى ضرورة وضع نظام دقيق، محكم لتموينها بالمياه، وفى العصر المملوكى قُدر عدد الدواب المخصصة لنقل المياه بثلاثة آلاف، ما بين حمار وبغل..كانت مراكز التوزيع تتمثل فى الأسبلة، وكلمة سبيل من اللفظ العربى، «وسبل الماء» أى أجراه ويسّره للناس، ويُعد ذلك من أرفع درجات الخير، وكثيرًا ما كان إقدام بعض الميسورين على بناء أسبلة أو وسائل لتأمين تقديم الماء إلى الناس من أجلّ الأعمال التى يقدمون عليها، ورغم تأمين شبكة مياه للمدينة فى العصور الحديثة إلا أن الناس فى القاهرة القديمة يحرصون على وضع القلل الفخارية ممتلئة فى الطريق للمارة، وخلال السنوات الأخيرة لاحظت وجود مبردات كهربائية أمام بعض البيوت أو عند نواصى الحوارى، وفى معظم هذه الأحوال يكون تيسير الماء للناس من أجل راحة روح متوفى عزيز.
أسبلة القاهرة من معمار ذاكرتى، كنت أمر بها منذ طفولتى فيلفت نظرى جمال نقوشها وفرادة تكوينها، خاصة سبيل بين القصرين، تركى الطراز المواجه لمسجد سيدنا ومولانا الحسين، كنت أمر أمامه يوميًا طوال صباى وشبابى، كذلك الأسبلة الأخرى فى القاهرة العتيقة، كلها فقدت وظيفتها بعد مد شبكة المياه فى بداية القرن العشرين بواسطة شركة إيطالية (الكوبانية)، عندما جاء نابليون بونابرت إلى مصر كان تعدادها ثلاثة آلاف سبيل فى القاهرة، كما أحصاها الفرنسيون فى «وصف مصر».
 الآن، وطبقًا للآثار المسجلة يبلغ عددها ستين، جفت كلها وأصبحت مبانى لا وظيفة لها، أذكر سبيلاً وحيدًا كان يفيض بالمياه حتى نهاية الخمسينيات، كان سبيلاً للحيوانات، تتوقف عنده الحمير والبغال والخيول والكلاب والقطط، والأخيرة كانت لها أوعية خاصة إلى جوار السبيل الذى كان على هيئة حوض مجرى مستطيل، أمام قسم الجمالية، وأيضًا أمام البيت الذى وُلد فيه نجيب محفوظ.. إ
نه السبيل الوحيد الذى رأيته يؤدى وظيفته الأساسية، والوحيد المخصص للحيوانات.. حرص المشرّع الإسلامى على تحقيق مبدأ الرحمة ليس فقط بالنسبة للإنسان إنما لكل مخلوق حى يدب على الأرض أو يطير فى الهواء، لذلك لو اطلعنا على حجج الأوقاف سنرى ما يثير الدهشة، حيث خصصت أوقاف للطيور الهائمة والمهاجرة التى تحط على اسقف المبانى والخرابات المهجورة، كذلك الحيوانات الضالة.
لأن الماء مقدس، لأنه أصل الحياة، لذلك اقترن بالقرآن الكريم، ولهذا شرح وتفصيل يتعلق بتركيب السبيل الذى يتكون من ثلاثة أجزاء، الأول صهريج يقع تحت مستوى الأرض لحفظ الماء وله شروط صحية صارمة، المستوى الثانى فوق سطح الأرض وعبره يتم تقديم الماء إلى السقائين الذين ينقلونه إلى البيوت أو المارة، ونلاحظ التنافس فى زخرفة الواجهات وكتابة بعض آيات القرآن الكريم بخط جميل، أو الأقوال السائرة وأبيات الشعر، أما الطابق الثالث فيضم مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم، أى كُتاب، بعض الأسبلة استمرت من خلال هذا الجزء بعد توقف تقديم الماء..
 آخر سبيل عرفته وكان عامرًا بالأطفال الذين يتلقون دروس العربية ويحفظون القرآن الكريم، سبيل أوده باشا، الذى يقع على ناصية حارة الميضأة بشارع الجمالية، كان عامرًا بالنشاط حتى بداية الثمانينيات، ويرجع الفضل فى ذلك إلى عدلى باعيسى الذى كان يعمل مدرسًا للغة العربية، إلا أنه أوقف حياته على خدمة أبناء المنطقة من خلال جمعية «فقراء الجمالية»، التى كان يقوم من خلالها بعمل خيرى كثيف، كان يرتدى الجلباب الأبيض الناصع بعد الظهر، لا أذكره إلا مبتسمًا، مضىء الملامح، لم يتزوج ولم ينجب، لكنه كان أبًا للجميع، ولا أبالغ إذا قلت إنه أمضى حياته بين حارة الميضأة ومسجد مولانا وسيدنا الحسين، كنت إذ ألمح الباب مفتوحًا أدخل وأصعد إلى الطابق الثانى حيث مكتبه، وكان صوت الأطفال الجماعى يردد وراء المدرس المتطوع:
قرأ
قرأ
معظمهم أطفال لم يبلغوا بعد السن القانونية للالتحاق بالمدارس الابتدائية، أرسلهم أولياء أمورهم لقضاء الوقت فيما يعود بالفائدة عليهم بدلاً من اللعب فى الحوارى والطرقات، كان مكتب عدلى باعيسى يعكس هدوءه النفسى وسلامه مع الدنيا، مرتب، نظيف، وكان الضوء يسرى على مهل من الخارج، وظلال الأزمنة المولية تدثرنا، أما ما يُثير كوامنى وشجنى حتى ليجعله يفوق على الشجون فرؤية لوحة خط عتيقة معلقة إلى الجدار، كُتب عليها:
«كشف الدُجى بجماله..»
كان الخط يبث نغماً خفياً يرقرق حالى، ويهدهد قلبى، لم أعرف هذه العبارة إلا فى لوحة أخرى أكبر وأغزر زخرفة، رأيتها خلال زياراتى الثلاث إلى مسجد السلطان أحمد فى إسطنبول، المعروف ب«المسجد الأزرق» لغلبة اللون الأزرق على زخارفه الداخلية، والتى أكاد أرى فيها أنفاس أبناء الفنانين المصريين الذين أسرهم سليم الأول ونقلهم بعد غزوه مصر فى القرن السادس عشر، هذا الغزو الإجرامى الذى أعتبره بداية النهاية للإمبراطورية العثمانية، فقد كان توسعها باتجاه الغرب،
ومن هنا كان يكتسب الضرورة الأخلاقية والفكرية، من خلال الدور النشط الذى تم دفاعاً عن العالم الإسلامى، ولكن عندما استدار سليم الأول ليغزو بلداً مسلماً تحول إلى غاز يستهدف الضم والاحتلال، وكل ما يصاحب ذلك من سلب ونهب، ولذلك ذهلت عندما قرأت للزميلة فريدة الشوباشى مقالاً فى «المصرى اليوم» يشير إلى وجود كتب مقررة على طلبة المرحلة الابتدائية تشير إلى ما تعتبره «الفتح العثمانى»، يوجد هذا فى المناهج التى تم استيرادها من الخارج.. إنها لكارثة، ولكن هذا مما يطول الحديث فيه، ومما يُفسد أيضاً استعادتى لتلك اللوحة البديعة التى لا أدرى مصيرها الآن.
«كشف الدُجى بجماله..»
المقصود طبعاً هو المصطفى عليه الصلاة والسلام، أعود إلى الأسبلة بعد أن طال بى الوقوف أمام واجهة سبيل رقية دودو التى سُرقت نافذتها المزخرفة المصنوعة من الحديد، وسد مكانها بالطوب الأحمر.
سبيل رقية دودو واحد من شبكة واسعة انتظمت فى المدينة لإمدادها بالمياه من النيل، اقتضى ذلك وجود تنظيم قوى لأداء هذه المهمة الحيوية وتكفلت طائفة السقائين بذلك، ومنذ الأزمنة القديمة كانت هذه الطائفة تخضع لإشراف وتنظيم دقيقين، وعندما كان أحد الراغبين فى العمل كسقاء يتقدم إلى شيخ الطائفة، كان لابد من قيامه بأداء اختبارات معينة، منها حمله لقربة أو كيس ملىء بالرمل لا يقل وزنه عن سبعة وستين رطلاً، ولمدة ثلاثة أيام وثلاث ليال متصلة لا يسمح له بالنوم أو الاستراحة، ثم يتم التحرى عن أخلاقه وسلوكه، السقا يدخل البيوت فى غيبة أربابها لتزويدها بالمياه،
 وكان المحتسب يولى هذه المهنة اهتماماً خاصاً لتأثيرها المباشر على الصحة العامة، وكان يتعين على السقائين نزول النهر بعيداً عن الأماكن الملوثة أو القريبة من المراحيض أو الحمامات أو مساقى الحيوانات، وكان ممنوعاً عليهم خلط مياه النهر بمياه الآبار، وأن يلتزموا بالحفاظ على قربهم وأدواتهم وملابسهم، وألا يستخدموا القرب الجديدة لنقل مياه الشرب لأنها تجعل طعم المياه غير مستحب، وأن يغطوا القرب بسعف النخيل حتى لا يضايقوا المارة بالطين العالق بها، وأن يعلقوا أجراساً صغيرة فى رقاب حيواناتهم لينبهوا المارة إلى مرورهم،
أما ملابسهم نفسها فاشترط أن تكون زرقاء قصيرة بحيث لا تخدش الحياء العام، مازلت أذكر رائحة القربة الجلدية التى كان يحملها السقاء الذى كان يدخل بيت خالى فى جهينة ليملأ الزير بالمياه، كان ذلك حتى منتصف الستينيات من القرن الماضى قبل مد شبكات المياه إلى القرى والنجوع فى الصعيد.. كان السقاء قوى البنية، يضع فوق ظهره قطعة مستطيلة من الجلد ليحمل القربة فوقها فلا تحتك بجسده مباشرة، لا أذكره إلا منحنياً، منحنياً عند سيره بثقل القربة، يزداد انحناؤه عندما يفرغها، اللون الغالب عليه البنى، ما اسمه؟ ما مصيره بعد مد أنابيب المياه؟ لا أدرى.
فى القاهرة القديمة كان السقاءون يتوزعون على أربع طوائف، أولاها، حاملو المياه على ظهور الحمير، ومقرهم المداخل الغربية للمدينة ناحية باب البحر وباب الشعرية، ثم طائفة أخرى لحى باب اللوق، وطائفة ثالثة فى حارة السقايين، أما الرابعة فمقرها قناطر السباع. وكانت توجد طائفة أخرى لحاملى المياه على ظهور الجمال، كانت هذه النقاط الرئيسية تحيط بالمدينة، ومنها ينطلق سقاءو القطاعى، كانوا بعد صب القرب يقومون بتسجيل خطوط على لوح معلق إلى الباب بعدد القرب التى أحضروها، أو يستخدمون عقوداً من الخرز الأزرق يسحب منها خرزة عن كل قربة يحضرها، وعندما تنتهى حبات الخرز يسوّى حسابه.
هذا عن البيوت المستورة، فماذا كان يفعل غير القادرين للحصول على المياه؟
هنا يأتى دور الأسبلة التى بُنيت فى الأصل كعمل من أعمال الخير، منها كان الفقراء والغرباء يحصلون على حاجتهم من الماء.. تقديم الماء للناس من أجلّ أعمال الخير، ومازلنا نرى مساقى للمياه على الطرق الزراعية، أو قللاً مصفوفة أمام المساجد، من إناء فخارى صغير إلى سبيل يعد تحفة معمارية، الجوهر واحد، وهو التقرب إلى الله سبحانه وتعالى بعمل يفيد الناس، لقد استغرق الأمر وقتاً حتى يصل السبيل إلى الشكل وإلى التكوين الذى وصلنا به، وفى تقديرى أن هذا لم يكتمل إلا فى العصر المملوكى.
آبار وعيون
لا تشير المصادر التاريخية المتاحة لنا حتى الآن إلى وجود الأسبلة قبل العصر المملوكى إنما يحدثنا المقريزى فى خططه عن آبار وصهاريج للمياه أيضاً كعمل من أعمال الخير، من أقدم الآبار التى يرد ذكرها فى الخطط «بئر الوطاويط»، أنشأها الوزير أبوالفضل جعفر بن الفضل بن جعفر بن الفرات، المعروف بابن خترابة، لينقل منها الماء إلى السبع سقايات التى أنشأها وأوقفها لجميع المسلمين، والوثيقة المتعلقة بهذه البئر تعتبر أقدم وثيقة وردت فى كل المصادر والآثار تتصل بتقديم المياه، ويرجع تاريخها إلى سنة 355ه، يقول النص:
«بسم الله الرحمن الرحيم
فلله الأمر من قبل وبعد وله الشكر وله الحمد ومنه المن على عبده جعفر بن الفضل بن جعفر بن الفرات وما وفقه له من البناء لهذه البئر وجريانها إلى السبع سقايات التى أنشأها وحبسها لجميع المسلمين وحبسه وسبله وقفاً مؤبداً لا يحل تغييره ولا العدول بشىء من مائه ولا ينقل ولا يبطل ولا يساق إلا إلى حيث مجراه إلى السقايات المسبلة فمن بدّله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدّلونه إن الله سميع عليم وذلك فى سنة خمس وخمسين وثلاثمائة وصلى الله على نبيه محمد وآله وسلم».
ومع الزمن خربت السقايات، وأهملت البئر وسكنتها الوطاويط، وعرفت البئر بهذا الاسم، ثم عمر المكان وسكنه الناس، وفى زمن المقريزى كان يعرف بخط بئر الوطاويط، ومكانه الآن يقع بالقرب من باب زويلة.
وفى الخطط أيضاً يقص المقريزى واقعة جرت فى عصر أحمد بن طولون، ينقلها عن المؤرخ السابق له القضاعى، إذ حدث فى أحد الأيام أن ركب أحمد بن طولون، ومر بمسجد يقع خارج القاهرة اسمه مسجد الإقدام كان قريباً من القرافة الكبرى،. وتقدم عسكره وقد كده العطش، وكان فى المسجد خياط مقيم، فقال: يا خياط.. أعندك ماء؟، فقال: نعم، وأخرج له كوزاً فيه ماء، وقال: اشرب ولا تمدّ، يعنى لا تشرب كثيراً، فتبسم أحمد بن طولون وشرب ومدّ حتى شرب أكثره، ثم ناوله الكوز، وقال: يا فتى، سقيتنا وقلت لا تمد.
 فقال: نعم أعزك الله، موضعنا هنا منقطع وإنما أخيط جمعتى حتى أجمع ثمن راوية (ثمن الماء) فقال ابن طولون: وهل الماء عندكم هنا معوز؟ فقال الخياط: نعم، فلما عاد أحمد بن طولون إلى قصره أرسل فى طلب الخياط، فأتوا به إليه، فلما رآه، قال: سر مع المهندسين حتى يخطوا عندك موضع سقاية ويجروا الماء وهذه ألف دينار خذها وابدأ الإنفاق، وبشرنى ساعة يجرى الماء، وبدأ العمل على الفور،
وعندما جرى الماء جاءه الخياط مبشراً فخلع عليه وحمّله واشترى له داراً يسكنها وأجرى عليه الرزق، وحتى عصر المقريزى كانت هذه المنشأة تعرف باسم قناطر ابن طولون، وبعد أن فرغ أحمد بن طولون من بناء هذه السقاية بلغه أن قوماً لا يستحلون شرب مائها، قال الفقيه محمد بن عبدالله بن عبدالحكم: كنت ليلة فى دارى، إذ طرقت بخادم من خدّام أحمد بن طولون، فقال لى: الأمير يدعوك، فركبت مذعوراً، مرعوباً فعدل بى عن الطريق، فقلت: أين تذهب بى؟ فقال: إلى الصحراء والأمير فيها، فأيقنت بالهلاك، وقلت للخادم: الله، الله فىّ، فإنى شيخ كبير ضعيف من فتدرى ما يراد منى فارحمنى، فقال لى: احذر أن يكون لك فى السقاية قول، سرت معه وإذا بالمشاعل فى الصحراء وأحمد بن طولون راكب على باب السقاية وبين يديه الشمع،
 فنزلت وسلمت عليه فلم يرد علىّ، فقلت: أيها الأمير إن الرسول أعنتنى وكدّنى وقد عطشت، فيأذن لى الأمير فى الشرب فأراد الغلمان أن يسقونى فقلت: أنا آخذ لنفسى فاستقيت وهو يرانى وشربت وازددت فى الشرب، حتى كدت أنشق ثم قلت: أيها الأمير سقاك الله من أنهار الجنة فلقد أرويت وأغنيت، ولا أدرى ما أصف طيب الماء فى حلاوته وبرده، أم صفاءه أم طيب رائحة السقاية، فنظر إلىّ وقال: أريدك لأمر وليس هذا وقته فاصرفوه، فصرفت، فقال لى الخادم: أصبت، فقلت: أحسن الله جزاءك فلولاك لهلكت.
وعندما مات ابن طولون أنشد عمرو بن الكندى أبياتاً يرثيه فيها ويرثى دولته، خصص بعضها لهذه البئر:
وعين معين الشرب عين زكية
وعين أجاج للرواة وللطهر
كأن وفود النيل فى جنباتها
تروح وتغدو بين مد إلى جزر
فأرك بها مستنبطاً لمعينها
من الأرض من بطن عميق إلى ظهر
بناء لو أن الجن جاءت بمثله
لقيل لقد جاءت بمستفظع نكر
يمر على أرض المغافر كلها
وشعبان والأحمور والحى من بشر
قبائل لا نوء السحاب يمدها
ولا النيل يرويها ولا جدول يجرى
كذلك يذكر المقريزى عدداً من الآبار والأحواض أنشئت قبل العصر المملوكى، منها حوض القرافة الذى أنشأته السيدة ست الملك، عمة الخليفة الفاطمى الحاكم بأمر الله، وحوض آخر بجوار قصر القرافة، بنته أم الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله، وحوض بداخل قصر أبى المعلوم بناه المحتسب، وحوض آخر بناه الحاجب لؤلؤ، ومن الآبار بئر أبى سلامة أو بئر الغنم كما كانت تعرف، وبئر الدرج التى أمر بحفرها الحاكم بأمر الله.
وعندما جدد الحاكم بأمر الله الأزهر، وأوقف عليه، كان من بين المصروفات المخصصة:
«دينار واحد وربع دينار ومن ذلك الثمن أزيار فخار تنصب على المصنع، ويصب فيها الماء مع أجرة حملها ثلاثة دنانير».
أما مسجد الحاكم نفسه، فقد حفر فيه صهريج بصحن الجامع ليملأ فى كل سنة من ماء النيل، ويُسبل منه الماء فى كل يوم، ويستقى منه الناس يوم الجمعة، ويذكر المقريزى أنه من بين التطورات التى حدثت فى الجامع العتيق، جامع عمرو بن العاص.
«ولما كان فى شهور سنة ست وتسعين وستمائة، اشترى الصاحب تاج الدين دارا بسوق الأكفانيين وهدمها وجعل منها سقاية كبيرة ورفعها إلى محاذاة سطح الجامع وجعل لها ممشى يتوصل إليه من سطح الجامع، وعمل فى أعلاها أربعة بيوت يرتفق بهم فى الخلاء ومكاناً برسم أزيار الماء العذب وهدم سقاية الغرفة التى تحت المئذنة المعروفة بالمنظرة».
لا يحدثنا المقريزى إذن عن الأسبلة كما نعرفها من خلال الشكل الذى وصلت به إلينا قبل العصر المملوكى، إنما كان الماء يقدم إما من خلال آبار، أو سقايات، أو يخزن فى صهاريج كبيرة، وقد استمر بناء الصهاريج فى المساجد والخانقاوات، وكانت هى الأساس الذى قامت عليه الأسبلة فيما بعد، وكان بعض الصهاريج يقام على أعمدة حاملة لقباب ضحلة، ولها سلم حجرى ملتف كما يوجد فى خانقاه الأشراف بارسباى بالجبانة، والبعض الآخر كان له سقف مسطح يرتكز على أكتاف جانبية ويتميز بالاستطالة وله سلم حجرى جانبى، أما أرضية الصهريج نفسه فكانت ملساء خالية من أى نتوء، على أى حال أصبح الصهريج فيما بعد هو أول جزء فى أى سبيل أقيم فى القاهرة، وقد أوقف المنشئون أموالاً كثيرة على إنشاء الصهاريج، تذكر وثيقة وقف الأشراف برسباى ما نصه:
«ويُصرف فى كل شهر من الشهور من الفلوس المذكورة سبعمائة درهم وخمسون درهما، وفى كل سنة من الفلوس المذكورة ثلاثة آلاف وخمسمائة درهم، أو ما يقوم مقام ذلك من النقود، ويصرف ذلك فى ثمن ماء عذب ينقل إلى الصهريج المذكور، فى كل سنة من ماء النيل المبارك عند جريانه فى الخلجانة ما فيه الكفاية إلى السنة».
تصميم المدينة الإسلامية العربية يتضمن عناصر عديدة تدور حول الرحمة، إنها الهدف من المبانى التى أقيمت لتراعى ظروف البيئة وانعكاساتها على الإنسان، فى الطرقات التى لا يمضى واحد منها فى خط مستقيم حاد كالشوارع الحديثة تخفيفاً للإحساس بطول المسافة عند السائر، والسقوف التى تظلل الأسواق، أما أبرز عناصر الرحمة فهى الأسبلة.. فى القرن الخامس عشر علق أحد الرحالة الأوروبيين بعد أن رأى هذا العدد من الأسبلة فى القاهرة، قال:
«إن ما نراه من الأسبلة الكثيرة فى أى مدينة إسلامية دليل على سمو خلق أهل هذه المدينة».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.