أحسنت هيئة قصور الثقافة بإعادة طباعة كتاب (الخروج إلى النهار) الشهير فى ترجمته الخاطئة ب(كتاب الموتى) وهى الحقيقة التى أشار إليها مترجم الكتاب عالم المصريات المرحوم محسن لطفى السيد الذى أصدر الكتاب فى طبعته الأولى على نفقته الخاصة بمطابع روزاليوسف عام 2004 ثم صدور الطبعة الثانية عام 2010. تتأسس فلسفة الكتاب على جدل العلاقة بين الخير والشر وتعظيم الأخلاق النبيلة، فيكون الثواب للأخيار والعقاب للأشرار. من بين العدد القليل من العلماء المصريين الذين درسوا اللغة المصرية القديمة، يبرز اسم عالم المصريات محسن لطفى السيد الذى جمع بين إجادته للغة المصرية القديمة وإجادته لعدة لغات حية معاصرة. وقبل ذلك عشقه الكبير لحضارة الجدود، ومن هذا الرصيد الذى غزل العلم والعشق فى جديلة واحدة، ترجم الكتاب، مع شرح النصوص من اللغة المصرية القديمة مباشرة إلى اللغتين العربية والإنجليزية. والكتاب من 510 صفحات من القطع الكبير جدا فى طبعته الأولى ومزود ب37 لوحة بالألوان. فى المقدمة أشار إلى الخطأ الشائع الذى وقع فيه عالم الآثار الألمانى (لبسيوس) عندما ترجم البردية إلى (كتاب الموتى) فى حين أن الترجمة الدقيقة من الهيروغليفية هى (الخروج إلى النهار) والكتاب هو ترجمة لبردية كاتب القرابين (آنى). فى الفصول الأولى نتعرف على المحكمة التى ستحاكم روح المرحوم آنى. ويرأس المحكمة الإله أوزير. وأعضاء المحكمة 42 قاضيا يمثلون محافظات مصر القديمة. يقف المرحوم آنى (كل متوفى يطلق عليه أوزير أى المرحوم) أمام القضاة مرتلا «يا قلب أمى لا تقف ضدى شاهدا. لا تفترى على كذبا أمام الإله» وفى الختام يقول الإله تحوتى «إن أفعاله وجدت صالحة فى الميزان العظيم. الأوزيرآنى لم يرتكب إثما ولم يصنع شرا. إن عم موت (الوحش الذى يلتهم قلوب الأموات الذين ارتكبوا الآثام) لن يكون له سلطة عليه». الميزان فى قاعة المحكمة فى إحدى كفتيه ريشة ماعت (إلهة العدل) وفى الأخرى قلب المتوفى. والمعنى الرمزى هنا أن يكون القلب خفيف الوزن مثل الريشة، لم تثقله الخطايا، ورمز آخر هو أن القلب والريشة متساويان. وفى الفصول الأخيرة تدخل الروح حقول اليارو (الجنة) ونرى آنى وهو يقود زوجا من الثيران. ونراه وهو يحصد ثمار القمح ويقول: «أريد أن أكون قويا عساى أن أحرث هناك وأصنع كل شىء كنت أصنعه على الأرض» والمعنى أن (الحياة) فى حقول اليارو صورة طبق الأصل من حياة المصرى على الأرض، حياة تعتمد على العمل وبصفة خاصة فى الزراعة التى مهدت لنشأة الحضارة. وتصل الفلسفة فى هذه البردية إلى معنى إنسانى عميق، إذ عندما يسأل آنى عن المتع الجنسية، يرد عليه الإله (آتوم): إنك سوف تحيا بسلام. لقد أعطيتك التجليات بدلا من الماء والهواء والمتع الجنسية. وهذا القلب عوضا عن الخبز والحنكت (البيرة) وهى المشروب الشعبى فى مصر القديمة، والمعنى هنا أن المتع فى حقول اليارو (الجنة) متع روحية. فى الفصل رقم 125 يرتل المرحوم الاعترافات الإنكارية وعددها 42 ويتضح منها حرص المصرى القديم على نبذ رذيلة الكذب، وهى الرذيلة التى تمقتها الشعوب المتحضرة فى عصرنا الحالى وتعتبرها من الكبائر وذلك بعد آلاف السنين من كتابة بردية آنى الذى يقول لإله أبيدوس «التحيات لك يا من تمقت الكذب» وأكثر من ذلك نجد فى اللوحة العاشرة نصا شديد الأهمية إذ إنه يساوى بين رذيلة الكذب والبراز، ووفق نص البردية فإن «الآلهة المصرية تمقت البراز والكذب» كما أن البردية تدين رذيلة أخرى وهى جريمة التلصص على الآخرين فيقول آنى: «أنا لم أسترق السمع» وتشمل الاعترافات تجريم الاعتداء على حقوق الغير وتجريم الزنا والسرقة الخ. وخيال كاتب البردية يتضح من فكرة الصعود إلى السماء بواسطة (سلم) متخيل صنعه الإلهان رع وحورس. وفى رصده لظاهرة الشروق والغروب، فإن (رع) يغرب فى صورة (أوزير) وأوزير يشرق فى صورة (رع) ثم أصبح أوزير هو الأمس و(رع) هو الغد. كما يبدع مركبا للصباح رمزا للخلود ومركبا للمساء للأبدية وهما وجهان لشىء واحد هو الخالق السرمدى. وفى اللوحة رقم 16 نجد آنى يركع فى بركة ماء نبتت فيها شجرة جميز مورقة وداخل فروع الشجرة نرى إلهة السماء (نوت) وهى تصب الماء على راحتى المرحوم آنى. أى أن خيال الكاتب (أنسن) الإلهة فى حركة صب الماء، كما أضفى عليها صفات الرحمة والمودة بالصورة المجسدة وليس بالكلمات. ومن الخيال البديع أيضا تحول المرحوم إلى طائر يحوم حول قريته ليرى منزله ويشاهد أهله. ويبدو أن المرحوم آنى اشتاق إلى زوجته (توتو) التى نراها معه فى اللوحة 34 وهى تحمل باقة طويلة من أزهار اللوتس. وفى اللوحة 28 نرى رأسا لإنسان يخرج من زهرة اللوتس، وهو رسم رمزى يمثل بزوغ الشمس يوميا وفق عقيدة منف وتسمى (نفرتوم) أى الحسن التام. والرسم يرمز إلى ضمان بعث المتوفى وأنه يستطيع أن يتحول إلى زهرة لوتس. والخيال يرسم صورة بديعة للإله الذى يرى كل شىء فى الوجود إذ إن «وجهه فى قفاه» وتشير البردية إلى أن جدودنا عرفوا تقسيم العمل والنظام الحسابى والأعداد الكبيرة مثل الحديث عن ملايين السنين. إن بردية الخروج إلى النهار تؤكد على أن موت الإنسان على الأرض ما هو إلا موت الجسد، أما الروح الطاهرة التى لم ترتكب الآثام المنصوص عليها فى الاعترافات الإنكارية، فستعيش فى حقول اليارو. وأن الروح تنتقل من حياة إلى حياة أخرى شبيهة بالحياة فى الحقول المصرية. وهذا الخيال ينفى افتراءات أعداء القومية المصرية الذين يزعمون أنها (حضارة موت) رغم أن أصحاب هذه الحضارة اخترعوا أول أبجدية فى العالم القديم وأول تقويم مازال العالم المعاصر يعتمد عليه. وأسسوا علوم الطب والهندسة والفلك والرياضيات. وأبدعوا فنون الرسم والنحت والأدب القصصى وصياغة منظومة من الأساطير انتقلت إلى الكثير من الأدب العالمى. والأساطير المصرية امتزج فيها طين الواقع بفضاءات الخيال كما فى بردية الخروج إلى النهار المشهورة فى ترجمتها الخاطئة ب(كتاب الموتى).