اعتدنا في ثقافتنا العربية أن نحتفل بالنجوم والأعلام عن طريق كلمات التكريم العاطفية التي تدمع لها العيون وتطرب لها النفوس, سواء نفس المحتفي به إذا كان حيا أو دموع محبيه إذا كان من الراحلين وهذا هو نمط التكريم الشائع الذي لا يقدم ولا يؤخر في مسيرة الإبداع ولا يحدد قيمة أو يلقي الضوء علي مشاريع القامات المبدعة في المجالات المختلفة. أقول هذا بعد وفاة محمد حمزة صاحب يا حبيبتي يا مصر التي يرددها كل مصري من قلبه قبل صوته في المناسبات الوطنية, ولا أحب أن يكون حديثي تأبينا لذكري راحل كريم يستحق التقدير, وإنما أحاول في هذا المقام إرساء ثقافة التقييم في التكريم عن طريق البحث عن الكلمة الحقيقية التي استثمر المكرم حياته في صياغة حروفها, فالمبدع كلمة طيبة كشجرة مثمرة تمنح من يستظل بها حبا وإلهاما, وهذا ما فعلته شجرة حمزة في الساحة الفنية العربية, فمن المؤكد أن هذا الرجل كان مختلفا وإلا ما وجد الي عالم الإبداع سبيلا وبخاصة أنه كان الصوت النابض في حنجرة العندليب عبدالحليم حافظ في نهاية الستينيات وحتي رحيل العندليب عام1977 فما الذي وجد فيه النجم الذي لا يضاهيه أحد آنذاك حتي يقدمه علي كبار شعراء الأغنية الذين صاحبوه منذ بداية مسيرته المرتبطة بانطلاق الثورة والممتدة مع الانتصارات والانكسارات في فترة صاخبة وشديدة الحيوية من تاريخنا المعاصر؟. المزايا التي اتسمت بها أعمال حمزة في الأغنية العربية يمكن إيجازها في ثلاث نقاط أساسية: الأولي هي أغنية الحالة التي تمزج بين الحكاية والوجدان في بساطة متناهية, فكأنها تأخذ أفضل ما عند مرسي جميل عزيز شاعر الوجدان وحسين السيد شاعر الحكاية, التقط محمد حمزة هذين الخطين معا واستطاع أن يقوم بتضفير جديلة واحدة تنساب في سلاسة تسري في روح السامع, فكأن الشاعر صديقا يجالس مستمعه ويحدثه ويسر له بمشاعره النابعة من تجربة إنسانية متعددة الاتجاهات وثرية, وبالتالي لم يكن حمزة علي الاطلاق أسيرا في قيد التجربة العاطفية التقليدية التي انشغل بها الشعراء قبله, فعند هذا المبدع لمسة إنسانية لها عمق فكري يتم عرضها بغاية السهولة, وهذه التجربة صبغت فترة السبعينيات بروح جديدة تجاوزت الروح العاطفية المغرقة في العزلة التي كانت سابقة علي فترة حمزة, وفي الوقت نفسه أرست للأغنية شكلا مختلفا عن الحدوتة التي كان حسين السيد بارعا فيها ولكنها استهلكت نفسها حتي طورها شاعر آخر هو صلاح فايز, كان حمزة معبرا عن التغيرات الاجتماعية والغربة التي مرت بها الشخصية المصرية بعد الانفتاح في منتصف السبعينيات فمست أغانيه أوتار القلوب وكان بحق شاعر السبعينيات. النقطة الثانية التي تميز حمزة هي قدرته علي الربط بين التجربة العاطفية والتجربة السياسية في أغاني العندليب الطويلة علي وجه التحديد مثل زي الهوي التي تعبر عن الحالة المصرية في عقب النكسة خير تعبير دون أن تلجأ الي المباشرة علي الإطلاق, لكن الحس السياسي عند حمزة يتدفق في الأغاني العاطفية التي لا يفطن كثير منا الي أبعادها السياسية التي تتحرك خلف الكلام الظاهر, وما ينطبق علي أغاني العندليب ينطبق علي كثير من أغاني نجاة وشادية ووردة وهاني شاكر مثل وفي وسط الطريق أو آخر ليلة أو بلاش تفارق أو هو اللي اختار. النقطة الثالثة التي أحب أن أتوقف عندها في شعر الراحل العظيم محمد حمزة الغنائي هي مشروعه مع العبقري بليغ حمدي أمل مصر في الموسيقي كما كان يحلو لعبدالحليم أن يصفه, فقد بدأ بليغ رحلة استثمار التراث المصري الصعيدي والريفي في الأغنية العاطفية وحقق نتائج رائعة مع أشعار عبدالرحمن الأبنودي ومجدي نجيب وعبدالرحيم منصور الذي افتقدته ساحة الشعر في فترة مبكرة, ولكن مشروع بليغ حمدي مع محمد حمزة في رأيي هو الأكثر أهمية لأنه كان بحثا في الفلكلور العربي يتجاوز المحلية ويريد أن يصل بين الروح العربية علي المستوي الشعبي موظفا صوت عبدالحليم الذي يعشقه العرب جميعا في ذلك, وكان هذا العمل خطوة أكثر جرأة من أية خطوة أخري تقف عند المحلية الوطنية وصولا الي خط قومي حقيقي يوحد المشاعر العربية, ونتج عن ذلك استلهام التراث الشامي في مداح القمر واستلهام التراث المغربي في زي الهوي وفي موعود وفي هذه الأغاني يتجاوز المؤلف حمزة والملحن بليغ المحليات ويضربان في جذور الغنائية العربية بوعي حقيقي, فكان هذا المشروع من أهم ما فعله محمد حمزة مع بليغ حمدي. وإذا أردنا أن نكرم محمد حمزة فعلينا أن نواصل البحث في معاني قصائده وارتباطها باللحظة التاريخية التي تألق فيه, وكيف حمل هذا الرجل مع بليغ حمدي رسالة شديدة الأهمية في ظروف صعبة وواصلا العمل بدأب فانطلقا بعبدالحليم في عالم الأغنية الطويلة التي تحمل فكرا وشكلا ومضمونا وتختلف عن الأغنية الكلثومية التي تجتر اللحظة العاطفية وتعتمد اعتمادا أساسيا علي قوة الصوت, فالمستمع لأغاني بليغ وحمزة الطويلة سيجد أنها أغان كورالية تؤدي المجموعة فيها دورا لا يقل عن صوت حليم بل يصل هذا المدي الي أبعد من ذلك في أغنية مثل خلاص مسافر التي يستمع اليها الشباب اليوم في جميع أنحاء العالم العربي لأنها تعبر عن الشارع بقوة وتوظف صوت المجموعة التي تمثل الشعب في مقابل صوت المطرب الفردي التي تمثل الوجدان. ومازال في أعمال محمد حمزة كثير من المعاني التي تستحق أن نقف عندها دون أن نكتفي بدمعة الحزن التي رفض حمزة أن يراها في عيون من يحب عندما كتب للعندليب في منتصف السبعينيات أي دمعة حزن لا. كاتب من المملكة العربية السعودية المزيد من مقالات د. غازي زين عوض الله