لا ينمحي من عقلي أبدا حوار مذهل في مشهد سينمائي بديع من فيلم8 ملليمتر للمخرج جويل شوماخر, حين أمسك المحقق الخاص توم ويليس الذي لعب دوره النجم نيكولاس كيدج بالقاتل الشرس, ونظر إلي عينيه الفارغتين متسائلا عن أسباب فتكه بضحاياه من الشابات الجميلات وهو يغتصبهن, فقال له القاتل وابتسامة سخرية علي شفتيه: لم تضربني أمي صغيرا, ولم تحبسني في الدولاب حتي تقابل عشيقها, ولم يغتصبني فتي شاذ, أنا أتلذذ بصراخ الضحايا وأحب سفك الدماء!.. كان هذا هو مشهد النهاية دون أي تحليلات نفسية. ومنذ وقعت مذبحة أتوبيس المقاولون العرب وسالت دماء12 قتيلا وجريحا, لا تكف وسائل الإعلام عن البحث والتنقيب عن أسبابها ودوافعها, لكنها تفعل ذلك وهي متأرجحة بين الاستهجان الحاد والاستغراب الساذج, كما لو أننا صحونا فجأة علي العنف في حياتنا, فوجدناه أرقا وقلقا ومخاوف وشيطانا يهدد أمننا الاجتماعي. وبسبب هذا الاستهجان والاستغراب انهالت علينا التحليلات سابقة التجهيز التي دائما ما نلجأ إليها من باب الاستسهال العام المريح والكسل العقلي الممل, كعادتنا في أشياء تحدث حولنا. صحيح أن العنف مثل أي كائن يعيش ويتمدد وينمو إذا توافرت له بيئة فاسدة ورعاية جيدة وسبل تغذية دائما وعلي العكس يخبو ويتقلص ويعيش علي التنفس الصناعي لو حرمناه من هذه البيئة والرعاية السلبية, لكنه لا يموت ابدا, لأن العنف جزء من طبيعة البشر. فمن علم قابيل أن يقتل أخاه دون أن يري دشا أو افلام رعب او بلطجة او غلاء معيشة او عقدا نفسية أو تحريضا من أصدقاء السوء؟! ويقول عالم النفس الأمريكي الشهير ماسلو إن أخطر الضغوط التي يمكن أن يتعرض لها الإنسان هي ما تمثل تهديدا لتلبية حاجاته الأساسية, خاصة الحاجات البيولوجية, الطعام والشراب والمأوي والجنس, وإذا هددت هذه الاحتياجات بأي شكل من الاشكال قد يتحول الإنسان الي وحش لا يأبه بقوانين وأعراف المجتمع. لكن بالطبع ثمة أسباب خاصة بكل مجتمع وتفسير ذاتي يتعلق ببنيته وعلاقاته وثقافته ونظامه السياسي وهياكله الاقتصادية ودور العدالة الاجتماعية فيه.. وعموما هذا النوع من القتل الجماعي ليس شائعا عندنا بنفس الدرجة التي عليها في المجتمع الأمر يكي مثلا, ولا يعني هذا أننا براء منه, لكنه أقل حدة, ولو راجعنا ملفاتنا في السنوات الاخيرة سنعثر بالقطع علي جرائم قتل جماعي متزايدة في عمليات ثأر بالصعيد أو في مذبحة بني مزار في ديسمبر2005, أو معر كة وادي النطرون علي حيازة ارض الدولة بوضع اليد في فبراير2007, لكن الجديد في مذبحة اتوبيس المقاولون العرب, هو اسلوب ارتكابها نهارا جهارا وبالرشاش الآلي. وعموما.. أي عملية قتل جماعي هي حالة فريدة خاصة بصاحبها وظروفه النفسية والعصبية والاجتماعية ودوافعه. وإذا عدنا الي أكبر مذبحة في تاريخ الولاياتالمتحدة علي سبيل المثال, فسنجد انها حدثت في عام1927, ونفذها أندرو كاهو, لأسباب تبدو غير كافية, فأندرو كان عضوا في مجلس إدارة مدرسة باث في مدينة ميتشجان, وانتابته حالة غضب عارم من قانون اصدرته الولاية, يفرض ضريبة مبان لتمويل انشاءات جديدة بالمدرسة, فأخذ قنبلة معه الي المدرسة في صباح اليوم التالي وفجرها وسط الطلبة والمدرسين والإدارة ليقتل45 شخصا هو منهم بالطبع و يصيب58 آخرين. منتهي الجنون ومنتهي العبث, في وقت لم تكن حرب فيتنام قد قامت ولا سمع العالم عن مذابحها ولا أخذت أفلام العنف هذا الحيز من الدموية والشيوع. أي تبدو جريمة بلا دوافع شخصية ضاغطة, مثل الجرائم التي يرتكبها اشخاص يتصورون أنفسهم ملائكة منتقمين فيتلبسهم دور المخلص الذي سينقذ البشرية من الشر والضلال والظلم, او مبعوث السماء لإنزال العقاب بكل من خانوا عهد الله وأغرقوا انفسهم في الرذيلة, فيقتلون فتيات ليل أو سيدات منحرفات باسم الدفاع عن الفضيلة وقد انتجت السينما عشرات الأفلام بعضها واقعي تماما مثل سفاح بوسطن وقاتل تكساس, وبعضها فانتازيا من الواقع مثل فيلم سيفين الذي لعب بطولته مورجان فريمان وبراد بيت وظلا يطاردان قاتلا من هذا النوع دون جدوي. وهذه حالة بغضاء مصحوبة بتطرف ديني! والسؤال الذي يفرض نفسه: هل ثمة سمات مشتركة بين القتلة تفيدنا في التفسير؟! علماء الجريمة يقولون إن بعض الناس يحملون جينات غير طبيعية, وعندما يكبرون يصبحون خطرا شديدا علي المجتمع لكن ليس جميعهم من مرتكبي العنف, وايضا من يعانون نشاطا مفرطا في بعض انحاء المخ يميلون الي الجرائم العنيفة لكن البعض لا يفعلها, وليست هناك قاعدة صارمة تحدد كيف يتحول المضطرب جينيا أو صاحب النشاط الكبير في دماغه الي العنف ويمارسه فعليا ضد الآخرين لكن من المؤكد أنه يحتاج الي عناصر تتراكم وتزيد من فرص إنتاج العنف المخبوء!! وينتهي علماء الجريمة الي مقولة عامة: إن جذور العنف ضاربة بشكل أو بآخر في بيولوجيا الفرد العنيف, مع وجود استعداد نفسي يعكس التفاعل المتراكم بين السمات الفطرية وتجارب الحياة القاسية التي تلعب دور العناصر المساعدة في تفجير طاقة العنف! وعموما.. يمكن وصف مرتكبي عمليات القتل الجماعي بأنهم تعساء ومجروحون عاطفيا ومكتئبون ومنعزلون ومصابون بجنون الشك والارتياب ويظنون أن العالم بأسره ضدهم! لكن يبقي سؤال صعب في عملية قتل قابيل لأخيه هابيل.. من أين أتاه الاضطراب في الجينات؟!. وهل كان تعيسا وحيدا؟! حقا.. الإنسان عالم من الألغاز!.