خرجت علينا إحدي الحكومات السابقة بقرار أو ربما بقانون يطالب المواطنين بتحمل تكلفة النظافة وجمع القمامة سواء المنزلية أو الخاصة بالشوارع. ومنذ ذلك الحين أصبح كل رب أسرة مصري يدفع نحو تسعة جنيهات مصرية علي فاتورة الكهرباء, ناهيك عن مبالغ مضاعفة مفروضة علي الأنشطة التجارية والمكاتب المهنية. وفي مقابل هذه الرسوم تلتزم الحكومة بمؤسساتها المختلفة, سواء التابعة للحكومة المركزية أو لأجهزة المحليات في المحافظات, بأن تقوم بمهمة الارتقاء بالنظافة العامة وابراز الشكل الجمالي الذي أهمل لفترات طويلة في غياب مشاركة المواطنين في تحقيق هذا الهدف الأسمي. وحتي تضمن الحكومة دقة إنجاز هذه المهمة لجأت بعض المحافظات, مثل القاهرةوالجيزة وغيرهما, إلي التعاقد مع شركات أجنبية متخصصة لتتولي هذه المهمة الجلل, مستخدمة أسلوبا عصريا وتكنولوجيا متطورة من سيارات وصناديق تجميع ومقشات وعمالة مدربة ترتدي يونيفورم مميزا. واستبشرنا خيرا في محافظة الجيزة. أخيرا سوف نري شوارعنا نظيفة, وسوف يتم جمع القمامة بصورة عصرية منتظمة بدون إهمال أو تأخير, وسوف يتم الاستغناء عن جامعي القمامة التقليديين. ودارت الأيام, علي رأي السيدة أم كلثوم, وحدثت تحولات كبيرة بشوارع الجيزةوالقاهرة وغيرها من المحافظات الشقيقة. ولكنها لم تكن التحولات المأمولة. فباديء الأمر, لم يكن في إمكانية هذه الشركات أن ترسل جامعي القمامة إلي كل وحدة سكنية مثلما كان الحال في ظل الأسلوب التقليدي لمتعهدي القمامة المعتادين. واضطررنا كقاطني وحدات سكنية أن نستمر في الاعتماد عليهم ودفع الرسوم الشهرية لهم بجانب الرسوم الرسمية للنظافة فوق فاتورة الكهرباء. ولكن الأمر لم يقف عند هذا الحد. فحتي شركات النظافة الخاصة الأجنبية, المفترض أن تقوم بتحمل مسئولية نظافة الشوارع والأحياء لم تقم بواجبها إلا لفترة محدودة للغاية, تبعها انقطاع وغياب غير مفهوم عن الشارع ونظافته. وترتب علي ذلك أن تراكمت أكوام القمامة في الشوارع الرئيسية والخلفية في معظم أحياء القاهرةوالجيزة وأصبحت مرتعا للحيوانات والحشرات ومصدرا للأمراض. وتحولت كل كومة صغيرة من القمامة إلي جبل بازخ في فترة قصيرة. ومع تفاقم الأزمة وتعالي الشكوي, بدأت المحليات في إرسال عمال النظافة التابعين لها للأحياء ولكنهم كانوا قليلي التأثير علي المستوي العام للنظافة. فقد اختفي الجزء الأكبر من صناديق تجميع القمامة الحديدية, كما لم تعد عربات تحميل القمامة تأتي لتنقلها سوي مرات محدودة. كما أصبح عمال القمامة يطالبون أصحاب العقارات بإتاوات شهرية ليقوموا بجمع القمامة المتراكمة من أمام عقاراتهم, ثم يلقونها أمام عقارات أخري لا تدفع المطلوب! واستمرار هذا الوضع يعد أمرا غير مقبول بأي منطق أو قانون لعدة أسباب: 1 المواطن رب الأسرة أصبح عليه أن يدفع تكلفة النظافة ثلاث مرات: أولا فوق فاتورة الكهرباء, ثانيا لجامع القمامة التقليدي, وثالثا لعمال النظافة العموميين( إأذا أرادوا شارعا نظيفا أمام عقارهم). وهذا الأمر يمثل عبئا كبيرا خاصة علي عاتق الأسر الفقيرة ومتوسطة الدخل. 2 كذلك فإنه من المنظور الاقتصادي البحت, فإن دفع رسوم نظافة بصورة رسمية فوق فاتورة الكهرباء دون أن يقابله خدمة يمكن تشبيهه بالإتاوة الرسمية. 3 إن العقود الأصلية مع شركات الكهرباء لم تكن تتضمن أي بنود خاصة بدفع أو تحميل المشترك برسوم نظافة. 4 وأخيرا فإن مهمة نظافة الشوارع بالأسلوب العصري لم ترتق بالأحياء للمستوي المتوقع ولكن مستوي النظافة تراجع عما سبق. بل إنني كثيرا ما أسأل نفسي: هل لو لم تكن هناك تعاقدات مع شركات نظافة خاصة أجنبية أو غيرها هل كان الوضع سيكون أسوأ؟ الواقع المشاهد لأي مواطن مهتم وغيور علي مصلحة بلده وراغب في رؤيته في أجمل صورة, هو واقع أليم. فمستوي النظافة العامة في ترد يوما بعد الآخر. فالشوارع الرئيسية والفرعية, ناهيك عن الحارات والأزقة والمناطق العشوائية في المحافظات الحضرية والريفية يمكن أن نري بها العجب. فبجانب تراكمات جبال القمامة علي جوانب الطرق والترع والمصارف, فهناك أيضا مخلفات الحفر والبناء, ومخلفات تركيب مواسير المياه وشبكات الصرف الصحي والغاز والتليفونات ورصف الطرق والكباري والحيوانات النافقة,,, الخ. ومن ثم يصبح من الضروري طرح عدة تساؤلات في شأن قضية النظافة العامة: ما هي الجهة أو الجهات المسئولة بالضبط عن النظافة العامة في البلاد؟ هل هي سلطة المحافظة وأجهزتها التنفيذية المحلية, أم هي وزارة البيئة ووزارة النقل والمواصلات ووزارة الإسكان كل في مجاله بجانب دور المحافظة؟ كيف يمكن أن يتم التنسيق ما بين المحافظات والوزارات المختلفة, حيث إنه من الواضح أن هذا التعاون مفتقد بدرجة كبيرة؟! أين تذهب رسوم النظافة التي تجمع قصرا من المواطن دون أن يكون لها مردود؟ ما هي الجهة التي تستلم هذه الحصيلة وكيف تتصرف فيها؟ هل من الضروري أن نستعين بشركات نظافة أجنبية فقط أم أن الشركات الوطنية يمكن أن تقوم بهذه المهمة أيضا, ولكن في ظل عقود ملزمة وحاسمة وشروط واضحة بالالتزامات علي الطرفين( المحافظة والشركة) وشروط جزائية عليهما أيضا في حالة عدم التزام أي من الطرفين. أين دور المجالس الشعبية المحلية في مراقبة مستوي النظافة العامة في المناطق التي انتخبوا فيها بهدف حمايتها وصيانتها ورفع من مستوي المعيشة فيها؟ أم أن موضوع النظافة العامة ترف لا يستحق أن تضيع وقتها الثمين في الاعتناء به؟ هل المحليات بوضعها الضعيف الهش الذي يسوده درجة عالية من الإهمال والفساد وعدم قدرة علي الاهتمام بأمر مثل النظافة العامة, مؤهلة للاضطلاع بمهام أكبر في ظل الاتجاه الحثيث نحو مزيد من اللا مركزية؟ أم أن العاملين بها في حاجة إلي تدريب مكثف, كما أن الأمر يستدعي وجود آليات رقابة ومحاسبة حازمة؟ هل تناول السادة المحافظون ورؤساء الأحياء في اجتماعاتهم هذا الأمر بالدراسة ووضعوا له مقترحات علمية للعلاج؟ وإذا كانت هناك مقترحات فما هي؟ ولماذا لا نري أثرها علي أرض الواقع؟ وما هي المعوقات التي تحول دول التنفيذ؟ هل التوجه نحو التعاقد مع الشركات الخاصة سبقه دراسة واضحة لكل مراحل سلسلة القيمة المرتبطة بعملية النظافة بدءا من مرحلة جمع القمامة المنزلية, وقمامة الشارع ومخلفات المشروعات الإنتاجية بأنواعها المختلفة( الصناعية, الخدمية والصحية.. الخ) ومرورا بعمليات الفرز والتصنيف, وانتهاء بعمليات التدوير وتوفير عدد مناسب من مدافن النفايات في كل محافظة من المحافظات؟ في تصوري أن الاهتمام بالحفاظ عي مستوي مناسب من النظافة أمر هام وحيوي لأسباب كثيرة إنسانية, اقتصادية, صحية, وجمالية. كما أنه لا يصح أن يتم تناول هذه القضية باستخفاف وتسطيح. فالبيئة النظيفة تجعل الفرد أكثر إقبالا علي العمل وتفاؤلا بالحياة. كما أن النظافة في كل دول العالم صناعة مجزية ماديا. وهي صناعة متعددة المراحل كل مرحلة منها يمكن أن تسهم في خلق قيمة مضافة وفرص عمل منتج في أنشطة متنوعة, قد يكون أهمها في مرحلة الفرز وإعادة التدوير والتصنيع. ومن ثم فإن الاهتمام بهذا القطاع له تبعات إيجابية متعددة الآثار علي الوطن والمواطن. المزيد من مقالات د. عالية المهدى