حكايته تثير كوامن الأوجاع, والأشجان, والذكري. تفرد بين كل الصحب بالصبر الجميل, وحكمة تزن الأمور, وفطنة كبري. نلوذ به إذا ضاقت بنا الدنيا, فيمنحنا صفاء القلب والأوقات, يدخلنا خزائن روحه, ويروح يصحبنا إلي أفق به ننسي مواجعنا وجمر نفوسنا الحري! إلي أن جاء يوم لم يكن فيه كعادته, وليس كما عهدناه, صموتا, عابسا, قلقا. كأن قد زاد أعباء وأثقالا, وعمرا لم نكن ندريه, لكن فجأة هرمت ملامحه, وشاخ, وشاب! وحين حكي حكايته, عذرناه. ولم نثقل عليه بأن يبوح, فباح وإذ بنسيج حكمته يذوب, وصبره المزموم ينحل, تكشف وجهه الآخر. لقد طحنته أهوال من الصدمات, واحدة تصيب, وبعدها أخري. وأولاها حبيبته التي قد ظنها دنيا أمانيه, وقد تركته طامعة بمن في جيبه المال الذي يغري, وفي أحضانه فيض من الإسعاد والإيناس. وثانية تولت عنه نافرة, ومنزعجة. فبينهما من السنوات ما تخشاه, سابقة له في العمر, حين يظل محتفظا بماء شبابه الريان, يجرجرها وراء خطاه. ولم يشفع له نضج ولا حكمة. ولا أجدي هوي طاغ لها يبديه. وكان فراق! وثالثة رأي فيها سكينته, ومأوي العمر. شاعرة يظن بأنها الكنز البديع أتاه يغسل من مرارته, ويذيب أحزانه, ودام الصفو أياما, إلي أن قام بينهما جدار الشعر. تظن بأنها بالشعر أرقي منه إحساسا, وأسمي منه منزلة, ونبض حياة. وأن الناس لا يدرون عنه وأنها صدر الكلام وزينة المجلس. إذن فليحمد الحظ الذي ألقي به في دربها الأسني, لترفعه, وتجعل منه نجما في مجرتها, ومقرونا بها في محفل الأزواج والسمار. وقال ودمعه يجري: حسبت بأنها يوما ستسكب شاعريتها, لنا, وتفيض رقتها, وتجعل من حياتنا قصيدة حب. وأن كلامها الوردي سوف يكون فجرا دائم الإشراق, وعمرا زاخر الأشواق! فهل تدرون حجم الصدمة المرة؟ كظمت الغيظ مرات, ولذت بكل ما عندي من الصبر الجميل, فما أفاد. وكنت أظن طول الوقت أن الشعر سوف يذيب مافيها من الطغيان والقسوة. يهذب من طبائعها, ويسلس من خشونتها, ويفتح من نوافذها, ويجعلها كباقي الناس, وهي تزيد عجرفة وإعناتا, وتمعن في غوايتها وغلظتها. فكان أن انفجرت ممزقا شعرا, كذوبا, زائف المعني, بعيدا عن حقيقتها لمن كانت كأن ليست كمثل الناس من ماء ومن طين!. تجمعنا نكفكف من مدامعه, ونغمره بآلاف من الأسباب والأعذار, ونحن نصب لعنتنا عليها, حية رقطاء, مهلكة لمن خدعوا بها, صاروا مطيتها إلي الأعلي. فمن زوج إلي زوج, ومن حضن إلي حضن, أليست دون كل الناس شاعرة؟ لتمعن في مباذلها, وتقفز من هوي لهوي, ومن دنيا إلي دنيا, كمثل فراشة يوما ستحترق! فدعها, قد نجوت, لزيفها المنصوب في الأسواق, فإن زمانها مازال ممتدا, وفتنة شعرها المصبوغ بالآهات والحركات واللفتات والسكنات تعمي ناقديها عن حقيقتها, وعن دنيا مباذلها, وتغري بعضهم ليكون من خدامها الأمناء! فإن لمثلها هذا الزمان, وأنت مثلك لا مكان له. نجاتك من براثنها, هو الفوز الذي ترجو, فحاذر بعد ثالثة الأثافي, حين يهوي القلب رابعة, وتصبح عرضة للداء! مكانك بيننا مازال, حيث يضمنا شمل, ويجمعنا تساندنا, بوجه الهجمة النكراء, في أرض بلا ظل, وفي زمن بلا خلصاء. وخل الشعر إذ يغويك للشعراء! المزيد من مقالات فاروق شوشة