الليل موعدنا لديك, وأنت تمعن في سجاياك الكريمة, ترتقي في كل يوم سلما, ونراك تصعد فيه, منطلقا إلي الأعلي, نقاء سريرة وفضاء إيناس, وعفو بساطة قادت اليك وأنت ضيف القادمين إلي حماك, تضئ سامرهم, وتضفي من عطاء الروح فيض بشاشة, ورؤي جمال. هذا الفتي الرومي, يقبل كي يكون الجسر ممدودا, يمد يديه بحثاعن كنوز في عقول الناس, يصغي للجميع منقبا بين الزوايا والحناجر عن صفات في نقاء الجوهر الأسمي, يرشحها لتصبح رسل تنوير, كتائب للبناء تؤصل الفن الجميل, وتزرع الشجر الظليل, فتنبت الصحراء أنغاما وتزدهر الأماكن بالظلال. ويجئ عبد الله, في دار العلوم ترعرعت أوراقه, ونمت مواهبه التي قد أفصحت عن نفسها, وقت اكتمال شبابه المغموس في مصر التي ظلت هواه ونبضه, وطريقه المأنوس نحو المجد, حيث يعود نجما في سفارته, يفوق كبار من فيها احتشادا وارتواء واقترابا من حقيقة موطن صافاة, وافاه, يبادله المحبة, وهو يسبق بالتحية والسؤال. صعب مثالك, في بساطته, وفي صدق التوجه, نافذا ببصيرة تزن الأمور, وحدسه البدوي يسبقه, يفاجئنا بما قد أنبأته الطير, يدهشنا بأن حديثه الرقراق ورد للظماء وساحة تلد الرجال. لو لم تكن رجل السفارة جئتنا في ثوب فنان رقيق الحس, العود في يده, وعزف خافت في البدء, سرعان مايعلو, تفور به الدماء, كأن مس الكهرباء سري, وأشعلنا, وحركنا, وأنت بهزة الكتفين تمنح جسمك المهتز إيقاعا, وتوغل في مسار العزف يأخذك الحنين إلي الغناء, فتنتشي, وهواك كلثومي أنغام وسنباطي الحان مزاج صيغ من ذهب, ومن أفق رفيع قد توشح بالجلال. هو ذا يسابق عمره وكأنه يستعجل اليوم الذي لم يأت بعده فلديه آلاف من الخطرات والسكتات مفعمة بألوان المحبة, اأنعطاف القلب, والميل الشديد إلي التواصل واقتحام مفاتن العمر الجميل, مغامرا, يصغي إلي لغة تحاوره, وصوت هاتف في الصدر يدعوه, فهو ينام في حال تصباه: ويصحو حين يصحو ماضيا في خير حال. ما أجمل الليل الذي ساد الصفاء به وقد رحل الجميع ولم يعد معنا سواه, الصاحب الفذ الحكيم العبقري, وأنت تسمعنا فرائده التي أدمنتها, وتقول لي: هذا أبو الطيب لا شعر يمتعني كهذا الشعر, لاسحر يدهشني كهذا السحر. وتغيب في نص جميل من بدائعه, وتشهق بالسؤال: لم لايعود زمان هذا الشعر معقود اللواء؟ ماذا جري للعاكفين علي تفاهات الحياة, كأنهم وجدوا كنوزا في متاهات الجسد؟ انظر, تأمل ما يقول الشاعر الفذ الذي قهر الزمان, واملأ وجودك من عجائب حكمة وضحي بيان. الشمس ساطعة وهم يتكبكبون علي هوام الليل والفعل البذئ يكابرون به لعل بذاءة الأقوال تضمن للصغار علو شان يا أيها الرومي أسعفنا بشاعرك الاثير فعطره ملأ المكان, وأنل مراشفنا حمياه, وعجل قبل أن تلد الركاكة بؤسها, ويفيض طوفان الهوان! مازلت أذكر رنة العود الشجي, وأنت منتظر قدوم الصحب, والود الذي قد فاح, مسكا, ذاب في أرج الحنان. لم يبق منك الآن غير العود عجم لايبين, وكان يفصح حين يلمسه البنان. ونسيم ليل كان يحملني اليك أعشو لمجلسم البهي وقد تجمع فيه أعلام الزمان. عقد من النظم الجميل, صنعته, وأخترته, كأنه يوم السباق, وأنت فارسه الذي من فوقه العقد الرهان. لولاه ما احتملت مرائرنا بشاعة نكسة فجأت, وحلما قد تشرذم في الرمال, وساعة فيها يضيء العقل بالمعني فنطفئ الأكاذيب التي كانت, وتنهدم التماثيل التي عبدت ويأتي قبل موعده الأوان. لولاه مجلسك البهي, وفيض إفضاء تبادلناه, لاختل الوجود الرحب, وانهار الأمان. كنا نفتش عن يقين, بعد أن شاه اليقين, وعن جدار بعد أن سقط الجدار, وعن شراب بعد أن فسد الشراب, فليس غير مرارة في الحلق, والدنيا دخان في دخان. يا أيها العطر المسجي, في رمال بلادك الذهبية, المغسولة الأنداء, لاتدري بأن الصحب بعدك في هجير الليل, يفتقدون فيك هوي ومأوي, يتجنبون طريقك المعهود, يبتعدون عنه, وقد نأيت, ولم يعد في الشرفة البيضاء سمتك واقفا دوما, تطل مرحبا, وتشير للأصحاب أن يتقدموا.. من ذا يشير لهم وقد أوغلت في السفر البعيد ومن يلقون إن جاءوا لبابك طارقين, وسلموا!؟