يثير موضوع استقلال البنك المركزي عن الحكومة جدلا كبيرا في مختلف الأوساط, ويبدو أن الاتجاه الغالب في معظم الدول هو نحو تأكيد هذا الاستقلال, ومع ذلك فقد أعيد طرح الموضوع من جديد, خاصة في أوروبا. عندما أجاز المحافظ الفرنسي تريشيه شراء البنك المركزي الأوروبي لسندات تطرحها الحكومات للمساهمة في دعم جهود الحكومات الأوروبية في معالجة الأزمة المالية. وقد رأي العديد من العاملين في البنوك المركزية الأخري, خاصة في البوندزبنك البنك المركزي الألماني, والذي تقلص دوره بعد إنشاء اليورو أن هذا التصرف من جانب تريشيه هو خضوع غير مبرر من محافظ البنك المركزي الأوروبي لضغوط رجال السياسة والحكومات لمساعدتها لإخراجها من ورطتها في معالجة الأزمة المالية, وأتجه هذا الرأي إلي أن مسئولية البنك المركزي الأوروبي تنحصر في حماية قيمة العملة, وأنه لا يجوز للبنك المركزي الخضوع للضغوط السياسية من الحكومات لأغراض أخري غير الدفاع عن قيمة العملة, فهذه مسئولية الحكومات وعليها تحقيقها بوسائل أخري غير استخدام البنك المركزي لهذا الغرض. ويعيد هذا الجدل حول دور البنك المركزي ومدي استقلاله, هو طرح لموضوع قديم/ جديد, فالتساؤل مطروح منذ فترة طويلة حول استقلال البنك المركزي عن الحكومة, ومدي وحدود هذا الاستقلال. وهناك شبه اتفاق علي ضرورة أن يتمتع البنك المركزي بدرجة عالية من الاستقلال في إدارة الشئون النقدية من الناحية الفنية, وأن لا أحد له أن يتدخل في هذا العمل, ولكن القضايا النقدية ليست كلها أمورا فنية, فأهداف السياسة النقدية لها طابع سياسي, وكان السؤال دائما هو من يحدد أهداف السياسة النقدية؟ هل هو البنك المركزي وحده, أم أن السياسة النقدية شأنها شأن كل سياسة هي بالدرجة الأولي عمل سياسي يخضع للمساءلة السياسية أمام البرلمان, وبالتالي فإن الحكومة لابد أن يكون لها دور في تحديد أهداف السياسة النقدية, فالحكومات مسئولة أمام البرلمان عن كل السياسات سواء كانت مالية أو نقدية أو تجارية, وبالنسبة للسياسة النقدية فإنه لا يمكن أن تكون الحكومة مسئولة عن أهداف سياسة لم تحددها, وقد انتهي الجدل في انجلترا إلي الإقرار بأن الحكومة تحدد بمشاركة البنك أهداف التضخم المسموح به, وأن يترك للبنك المركزي وضع السياسة النقدية الكفيلة بضمان تحقيق هذه الأهداف. فوضع الأهداف للسياسات المختلفة هو بطبيعته عمل سياسي تحدده الحكومة تحت المسئولية أمام البرلمان, أما أساليب تحقيق هذه الأهداف, فهي مسائل فنية يترك للبنك المركزي حرية اتخاذ الإجراءات النقدية المناسبة لتحقيقها. أما الوضع في الولاياتالمتحدة فهو مختلف بعض الشيء, فالنظام السياسي في الولاياتالمتحدةالأمريكية نظام رئاسي, وليس برلمانيا, وحيث يضع الرئيس وحده السياسات التنفيذية, وهو مسئول عنها أمام الشعب في الانتخابات, ولكن الكونجرس هو الذي يوافق بالمقابل علي الموازنة, وهكذا هناك استقلال بين السلطات, كما أن هناك توازنا بينهما, الرئيس يرأس السلطة التنفيذية, ويختص البرلمان بالتشريع, وبذلك فهناك تقسيم واضح للاختصاصات وفصل كامل بين السلطات, وفيما يتعلق بالسياسة النقدية فإن البنك المركزي بنك الاحتياطي الفيدرالي يضع هذه السياسة, ولكننا نجد أن تعيين رئيس هذا البنك يتم بترشيح رئيس الجمهورية, وموافقة الكونجرس, وفي نفس الوقت فإن رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي يقدم تقاريره للجان البرلمان بمجلسيه, وهكذا نجد أن البنك المركزي الأمريكي يخضع لإشراف مشترك من الرئيس والكونجرس, فالتعيين يبدأ بترشيح من الرئيس, وكذا التجديد, وهو مسئول أمام لجان الكونجرس, فيما يقدمه لها من تقارير كذلك هناك تعاون وثيق بين رئيس بنك الاتحاد الفيدرالي ووزير الخزانة, ولا تقتصر أهداف السياسة النقدية في أمريكا علي حماية قيمة العملة, وإنما أضيف إليها أيضا بعد الحرب العالمية الثانية هدف حماية مستوي العمالة والنشاط الاقتصادي, وهكذا فإن بنك الاحتياط الفيدرالي هو الذي يضع السياسة النقدية, وحيث يتم تعيين الرئيس وأعضاء مجلس الإدارة, بقرار مشترك من السلطتين التنفيذية والتشريعية, كما أن رئيس البنك مسئول أمام لجان الكونجرس, ولا تقتصر مسئوليته فقط علي حماية قيمة العملة, وإنما تمتد إلي تحقيق مستوي معقول من العمالة والنشاط الاقتصادي. وكان النموذج الالماني هو الأكثر تأثيرا في الفترة الأخيرة علي تحديد مفهوم مدي استقلال محافظي البنوك المركزية في أوروبا, فالبنك المركزي الألماني مسئول فقط عن حماية قيمة العملة, ومحاربة التضخم, وهو يتمتع باستقلال تام إزاء الحكومة, ولا يرجع هذا الوضع إلي نظرية اقتصادية بقدر ما هو نتيجة ظروف تاريخية خاصة بألمانيا, فلا ننسي أن ألمانيا عانت بعد الحرب العالمية الأولي من مشكلة التضخم المبالغ فيه حتي أصبح الشعب الألماني بالغ الحساسية لكل ارتفاع في الأسعار, وبعد الحرب العالمية الثانية خضعت ألمانيا للاحتلال من جانب دول الحلفاء الأربع: الولاياتالمتحدة, وانجلترا, وفرنسا, والاتحاد السوفيتي, وكانت هذه الدول المنتصرة في الحرب تدير المناطق الواقعة تحت سيطرتها, وذلك قبل إعلان قيام جمهورية ألمانيا الاتحادية, وقد رأت سلطات الاحتلال الغربية في عام1948 أنه من الضروري إصدار عملة جديدة هي المارك الألمانيDeutschMark بدلا من العملة النقدية القديمة مارك الريخReichsmark واستخدمت قوات الاحتلال الأمريكية البنك المركزي لمقاطعة لاندرLander لهذا الغرض, وفي ضوء التجارب المريرة للتضخم في ألمانيا فقد حددت وظيفة هذا البنك بحماية قيمة العملة فقط, ونظرا لأن قيام هذا البنك بهذا الدور في ظل سلطات الاحتلال الذي سبق إعلان دولة ألمانيا الاتحادية في1949 فقد كان من الطبيعي أن يصبح البنك المركزي الألماني البوندزبنك مستقلا عن الحكومة الألمانية التي لم تكن قد تأسست بعد فالبوندزبنك يجد جذوره التاريخية قبل وجود الحكومة الألمانية نفسها, وهكذا تقرر الاستقلال التام للبنك المركزي الألماني إزاء الحكومة نتيجة مصادفة تاريخية استثنائية, وهي عدم وجود حكومة ألمانية عند قيام البنك. لا يتوقف الأمر علي هذه الملابسات التاريخية, بل الأكثر أهمية هو أن هذا البنك المركزي الألماني البوندزبنك نجح نجاحا منقطع النظير في حماية استقرار المارك الألماني مما ساعد علي تحقيق الازدهار الاقتصادي منذ نهاية الحرب, وحتي إنشاء منطقة اليورو, وفي ظل هذه التجربة التاريخية الباهرة ونجاحها من ناحية, مع أهمية الاقتصاد الألماني في الإطار الأوروبي وإصرار الحكومة الألمانية علي الأخذ بالنموذج الألماني من ناحية أخري, فقد كان من الطبيعي أن يقوم نظام البنك المركزي الأوروبي علي نمط البوندز بنك علي أساس الاستقلال التام إزاء الحكومة, وأن تكون مهمته الوحيدة هي حماية قيمة العملة. وفي ضوء هذه التقاليد النقدية الراسخة في الذهن الألماني لم يكن غريبا أن تظهر علي السطح بعض الانتقادات خاصة في الأوساط الألمانية لموقف البنك المركزي الأوروبي, عندما سهل البنك في ظل رئاسة تريشيه عمليات الحكومات في إصدار السندات مع الاكتتاب فيها لمساعدتها في معالجتها لتداعيات الأزمة المالية, ولم يكن غريبا أن تكون أكثر الانتقادات هي تلك الصادرة من البوندزبنك نفسه, فمازالت التقاليد القديمة راسخة في العقل الألماني, ومع ذلك, فإن موقف تريشيه لا يخلو من منطق قوي, فإذا كان البنك المركزي الأوروبي مسئولا بالدرجة الأولي عن حماية اليورو, فإن أول الواجبات هو الحفاظ علي نظام نقدي ومالي سليم. ولا يخفي أن الأزمة المالية الأخيرة بدأت تثير مطالبات متعددة بإعادة النظر في دور البنوك المركزية, خاصة بعد بروز أهمية وخطورة الاستقرار المالي, وتأثيراته علي المستوي الاقتصادي العالمي, ولذلك فإن مجموعة العشرينG-20 جعلت من الاستقرار المالي أحدي أهم السياسات النقدية والمالية للدول في الوقت الحاضر. ولعلي أشير بهذه المناسبة إلي أنني شاركت خلال مأدبة غداء مع بعض محافظي البنوك المركزية, وغيرهم من المسئولين وتناول الحديث مسئولية البنوك المركزية إزاء الضغوط السياسية من الحكومات, وأثير في هذا السياق حادثة محافظ البنك المركزي الارجنتيني الذي فقد وظيفته لأنه عارض رئيسة الجمهورية, وأبدي رأيه كمحافظ للبنك المركزي مخالفا لما تراه الرئيسة, وهكذا بدأ التساؤل هل يجوز أن يختلف المحافظ مع حكومته؟ وكان الرأي الغالب بين الحاضرين هو أنه من غير المقبول أن يعترض المحافظ علي رأي الحكومة, فما بالك برئاسة الدولة! وقد أبديت اختلافي حول هذه النتيجة, وأن علي المحافظ أن يبدي رأيه بصراحة ووضوح, حتي وإن خالف في ذلك رأي الحكومة, لأنه بغير ذلك يكون قد أخل بواجب إبداء النصيحة السليمة لرجال الحكم والسياسة, وبطبيعة الأحوال, فليس معني ذلك تجاهل الاعتبارات السياسية, بل عليه ان يأخذها في الاعتبار, وإنما في إطار مسئولياته كمحافظ للبنك المركزي, فالمسئولية بطبيعتها شاملة, وغير جزئية, فهو في تقديره للاعتبارات السياسية ينبغي أن ينسي دوره كمحافظ للبنك المركزي, وأنه مسئول بالدرجة الأولي عن الاستقرار النقدي, فالمرونة المطلوبة لا تعني تجاهل دوره في إطار وظيفته, بل عليه أن يكون صادقا ومستقلا, وليس مرددا لما يقوله السياسيون, ويبدو أن آرائي لم تجد قبولا من معظم الحاضرين, وهم جميعا أصحاب خبرة ووصلوا إلي أعلي المناصب, وربما هذا هو السبب والله أعلم. المزيد من مقالات د.حازم الببلاوي