في الهزيع الأخير من الليل يرحل, منشغلا بالغواية, يستقرئ الظلمة المدلهمة, والخوف من رعشة تعتريه, فيصغي لصوت وحيد بعيد, كأن راح يدعوه, صوت يبشره أم يحذره؟ ليس يدري, ولكنه يتداوي به, ويؤنس وحشته المستبدة, والخطو عبء ثقيل. هو ذا يتخبط بحثا عن الهادية. وعن بارق لا يطيل المكوث, يشير له ومضه, يختفي فتلاحقه ظلمة الأسر والقيد, كأن عوالم جن خرافية تتساقط, تحكم سد الطريق, وأنفاس أشباحها تتصاعد من حوله كالأزيز, ويندلع الصوت حينا ويخفت من قبل أن يتلاشي, بحيرة صمت تجمد في سطحها ما تخيل من كائنات, طفت وتراكم عشب المياه جسورا تنوء بأحمالها, وتغادر, ليس لقسوتها من مثيل. حين أغمض عينيه, راح يراجع أيامه, يتأمل حبا توهمه, أنهكه شجوه واستباح مواقيته, وتشربه قطرة قطرة, وهو يمعن في السير, يخطو الي ما هو أعمق لم يلتفت حوله مرة, فلعل بصيصا من الضوء يسري إليه, يضيء له القلب والعقل, يحفزه للتأمل في خيمة تضيق به, وهي تطبق من فوقه, وأنفاسه تتلاحق في اختناق, وساقاه لا تقويان علي حمله, أما آن له أن يفيق, يري كل شيء علي غير ما يتوهم, ينفض عنه الخيال الذي لا يليق به, والخيال الذي زين الوعد, صاغ من الوهم أيقونة علقت فوق جدران عالمه, تتصباه جلوتها ويغازله ما تناثر من أشعتها, وهي تبرق في وشحة العمر, درته في ختام المسار الطويل. يازمان الفتوحات أطلق كلابك, تعوي وتفزع من يعبرون, ومن يأنسون الي وحشة الليل, فيها التوحد, والصفو, والهدأة المجتباة, وفيها الطريق الذي يتكلم دون كلام ويوحي لمن أرهفوا سمعهم, واستعدوا لميقاتهم, وتجمع أرواحهم في مدي شاسع وفضاء بعيد. الكلاب التي ترتعي ظلمة الليل, آفة هذا التوحد والصفوة, لا تدع الناس في حالهم, تشغلهم بالنباح الذي ينطوي في النباح, ويخرج أسوأ ما في الصدور, وشيئا فشيئا يضيق الطريق بمن سلكوه فرادي, ومن قصدوه حياري, ومن وجدوا في ستائره حين يسدلها فوق ما يحملون دثارا, وليس لأهل الطريق إذا ما تنادوا لساحته من بديل.. هل يفيق من الوهم؟ ذاك الذي لم يفد من قوارع دنياه وهي تزلزل منه اليقين, وتدخله في مكاشفة مع النفس هل يليق به الآن ما كان مندفعا في غواياته ذات يوم؟ وهل يستنيم الي ما ارتضاه وأصبح من بعض عاداته, وشواغل أيامه, وزهو شواغله الهادرة؟ سوف يبكي علي الحب كما كان يبكي من الحب, سوف يمضي الي النيل يسمعه النيل بعض أحاديثه الساحرة. كان يأوي إليه ويصغي لحكمته, ويري فيه جدا كبيرا لديه الكثير الذي قد يقال, لديه الكثير الذي لا يقال ولكنه حين يلقاه يفتح صدر الحنو, ويحكي له عن تفاصيل دورته الدائرة. سيصغي الي النيل وهو يبث لواعجه ويبوح بأسراره وبخيبة أوهامه, لكنه الآن يدرك أن الذي سوف يسمعه هو بعض أحاديثه الساخرة. سيقول له النيل ما لا يود, سيقسو عليه, ويجبهه بالذي سيرد له الوعي, حتي يفيق, وينفض عنه الركام البليد, وقد وضع الدرب في ناظريه إذا ما مضي واستقام السبيل. جاءني شاكيا, فقلت له: ألف وجه غدا سيشغل دنياك, ويغنيك عن سقام وشكوي. أطلق الآن في الفضاء جناحيك, وحلق, فالأفق حلم ومأوي والسماء الزرقاء تبدو لعينيك كما لم تكن, صفاء ورقة, وحنانا, ورحمة, وينبوع سلوي, فامض مستقبلا صباحك, بادر باقتحام الوجود, طيرا مبرأ من قيود الوهم, وانهل من الربيع الذي دارت سواقيه, وهذا فؤادك الحر يروي. يانسيم الصباح عطر أويقات أتته سخية, وظلالا تحنو عليه وترعاه, وصوتا يشده حين دوي. ياطيور المساء طوفي حواليه قبيل غروب الشمس, زفيه, وقولي له يتروي. إنه الآن عاشق النيل والأشجار والأرض, يري في الوجود زادا وسلوي. إنه راحل الي حيث تمتد خيوط النجاة والحلم, يري في ارتحاله أمانا لما يزمع, شطآن بلاد بعيدة, ونجوما غير النجوم التي يعرف, وجها غير الوجوه التي يألف, يصغي لكلام غير الكلام الذي أصبح لغوا, وشعر غير الذي مله الناس ومجوه, وليل يفيض أنسا ونجوي. ليس ما يرتجيه لهوا, وإن كان سيبدو في أعين البعض لهوا, فليزل من حسابه ما يري الناس, فهذي حياته هو لا غير, وهذا طريقه سوف يمشي, برغم الزحمام, مرا وحلوا. ### في الهزيع الأخير من الليل يأتي, علي وجهه تستدير شعاعة حب, وفي مقلتيه بريق يطوق أيامه القادمة. قلت: هل تستدير حياتك شوقا لما كنت فيه, حنينا لأيامك الغابرة؟ هل يسيطر ثانية وهم ما قد مضي؟ وهم ذاك الزمان الذي قيل عنه الزمان الجميل؟ قال لي ودموع السعادة تملأ عينيه هذا هو المستحيل! المزيد من مقالات فاروق شوشة