لا شك أن القضاء لا يزال الصرح الأخير, والحصن المنيع الذي نشعر في ظله ببعض الأمان المنقوص نتيجة لبطء العدالة, وطول إجراءات التقاضي, ووجود حفنة من المحامين معدومي الضمير الذين يتفننون في البحث عن ثغرات القوانين وتعطيلها, ثم عدم تنفيذ الكثير من الأحكام التي يصدرها القضاة, وعدم وجود شرطة قضائية تتبع وزارة العدل من أجل التأكد من تنفيذ تلك الأحكام لكي تصل العدالة إلي هدفها في الردع وعودة الحقوق إلي أصحابها. والحقيقة إنني مهموم بما يحدث من تغطيات إعلامية لبعض المحاكمات التي شغلت الرأي العام خلال السنوات الأخيرة, حتي تحولت بعض الفضائيات إلي صور مصغرة من قاعات المحاكم, يترافع فيها المحامون, ويلقي الناس باتهاماتهم لبعضهم البعض, ويعبأ الرأي العام في صالح طرف ضد الآخر, ويصبح متحفزا لسماع حكم بعينه, ولا ينقص هذه القنوات سوي النطق بالحكم الذي يتركونه للقاضي, ثم تعقب ذلك عشرات البرامج التي تهلهل الحكم أو تهلل له وتعلق عليه, ثم تعقب بعد ذلك بالقول المأثور طبعا الحكم عنوان الحقيقة.. ولا تعقيب علي أحكام القضاء ولكن.. وآه من ولكن هذه! فلمصلحة من نضيع هيبة القضاء والنظام القضائي الذي لا يزال أنقي وأنزه ما في البلد, ونشكك في أحكام القضاء ؟ ولكن هل يمكن أن يخطئ القاضي في حكمه ؟ بالتأكيد خطأ القاضي وارد فهو بشر, ولهذا أسباب عديدة يجب ألا يكون من بينها التشكيك في نزاهة القاضي نفسه, لأن هناك من يحاسب مثل هذا القاضي ويراجع أحكامه, وإذا كان الرسول صلي الله عليه وسلم قد وضع هذا الاحتمال علي نفسه وهو الموحي إليه والمنزه عن الخطأ, فلماذا ننكر حدوث هذا مع البشر العاديين, أليس هو- صلي الله عليه وسلم- القائل:( إنما أنا بشر مثلكم, وإنكم تختصمون إلي, ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض, فأقضي له بنحو مما أسمع, فمن قضيت له من حق أخيه شيئا, فإنما هي قطعة من النار, فليأخذ أو فليذر), فهو صلي الله عليه وسلم يقضي في المسألة بالبينة وبالشهود, وهذا هو المطلوب منه شرعا, ولكن إذا أخطأ الشهود أو كذبوا عليه صلي الله عليه وسلم فإن الله عز وجل يعلمه بذلك, ولم ينزل الوحي علي النبي صلي الله عليه وسلم في كل قضاء قضاه بين اثنين لأنه لو كان كل قضاء يقضيه بين الناس ينزل عليه فيه الوحي, فماذا سيصنع الخليفة الذي سيأتي من بعده إذا أراد أن يقضي بين الناس؟ لاشك أنه سيخاف أن يخطئ في الحكم وسيقول: إن النبي صلي الله عليه وسلم كان معصوما وكان الوحي ينزل عليه, فحتي لا يحدث هذا كان النبي صلي الله عليه وسلم يقضي بما يسمع, فيسمع من الشهود طالما أنهم ثقات, والخطأ في النهاية هم الذين سيتحملونه. ولذلك فهناك درجات مختلفة للتقاضي بحيث يمكن للاستئناف أن تلغي حكم محكمة أول درجة, كما يمكن للنقض أن يلغي حكم الاستئناف, وليس في هذا عيب, ولعل في قصة داود وسليمان ما يوضح هذه الجزئية لكي يفهمها الناس كما وردت في القرآن الكريم, فقد ذكر الله عز وجل قصة داود وسليمان إذ حكما في قضية الغنم التي أكلت العنب في قوله سبحانه وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين* ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين* وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون[ الأنبياء78:80] والقصة أن الخصوم جاءوا إلي داود عليه السلام, أحدهم يشكو أنه صاحب زرع والبعض الآخر كانوا أصحاب أغنام وقد تركوا الغنم ترعي بالليل فاقتحمت البستان فأكلت العنب الموجود فيه. فكان حكم داود عليه الصلاة والسلام أن الغنم لصاحب البستان تعويضا له عن فقد ثماره. فلما خرج الخصوم علي سليمان عليه السلام سألهم عن الحكم, فقالوا: كذا, فقال: لعل الحكم غير هذا, فانصرفوا معي, فانصرفوا معه فذهب إلي أبيه فقال: يا نبي الله- هذا خطاب الابن لأبيه- إنك حكمت بكذا وكذا- ما قال له إن هذا الحكم خطأ- ولكن قال: وإني رأيت ما هو أرفق بالجميع, قال: وما هو؟ قال: ينبغي أن تدفع الغنم إلي صاحب الحرث- أي الزرع- فينتفع بألبانها وأصوافها ويدفع الحرث إلي صاحب الغنم ليقوم عليه أي يعتني بزراعتها ويتولاها حتي تنضج ثمارها مرة أخري. وهكذا نجد أن حكم سليمان كان أرفق, وحكم داود لم يكن خطأ, ولكن التسديد من الله عز وجل كان لسليمان, فحين وجد داود أن الزرع الذي أكلته الغنم قيمته تساوي قيمة الغنم, حكم بأن الغنم لصاحب البستان فيكون حكمه صحيحا, وحكم سليمان عليه الصلاة والسلام كان أرفق من حيث إن أصحاب الغنم ليس عندهم من المال غيرها, فحتي لا يكونوا بغير مال حكم بأخذ الغنم منهم فترة معينة, ينتفع بها أصحاب الزرع, حتي إذا زرع أصحابها البستان ونما الكرم أخذ أصحاب الغنم أغنامهم وأصحاب البستان بستانهم, فكان حكمه أرفق من حكم داود, فقال داود لابنه:( وفقت يا بني, لا يقطع الله فهمك) أو كما ذكرعن بن مسعود. وتوضح التفاسير المختلفة معني ففهمناها سليمان[ الأنبياء79], فالتفهيم إنما هو نوع من الإلهام والفطنة, وهو هبة وفضل من الله عز وجل يعطيه للإنسان, فيشعر أن الخطأ في كذا والصواب في كذا, أي أوضحنا له الفهم الحقيقي للقضية أو الحكم في هذه المسألة, فكان قضاؤه أقرب إلي مصلحة المتنازعين في التعويض المادي الذي يتساوي فيه كل منهما في وصوله إلي حقه من دون نقص, وقد كان المعيار هو جبران الخسارة, فربما نظر داود إلي أن الخسارة التي أصابت الزرع تعادل قيمة الأغنام, ولذلك أعطي الأغنام من خلال وجهة نظره في ميزان الحكم لصاحب الزرع, خصوصا أن التقصير كان من صاحب الأغنام الذي كان من مسئوليته أن يضبط حركة غنمه في الليل, وأن يمنعها من العبث بزرع الناس الذين لم يعتادوا حماية أرضهم في الليل, كما أن من واجب صاحب الزرع حفظ زرعه في النهار. أما معيار حكم سليمان, فقد كان منطلقا من أن خسارة صاحب البستان تعادل ما سينتفع به من الأغنام لمدة سنة كاملة, ولم تكن المسألة مسألة اجتهاد فقهي ظني في الحكمين علي حسب المصطلح في الاجتهاد, لأن الأنبياء لا ينطلقون في أحكامهم من منطلق ذاتي, بل من خلال تطبيق العدالة الإلهية في النظرة إلي الواقع التعويضي- وهو ما يعرف حاليا بنص القانون وروح القانون- الذي انطلق منه الحكمان. وكلا آتينا حكما وعلما الأنبياء:79, فقد أصدرا الحل لهذه المشكلة والحكم بالحق من موقع العلم الذي يتميزان به, مما ألهمهما الله إياه ليتحركا من خلاله في قيامهما بمسئولياتهما القضائية من دون خطأ في القاعدة التي يرتكز عليها الحكم القضائي, ولينطلقا به في توجيه الناس إلي الحق في حياتهم العامة والخاصة, وفي منازعاتهم واختلافاتهم للوصول إلي الموقف الصواب, والعلم هو ما يمكن أن يكتسبه الإنسان بالدرس والإطلاع والمذاكرة, لكن الحكمة تكون مزيجا من العلم مع الرأي السديد, والتجربة, وكثير من رحابة الصدر, وروح التأني, وضبط النفس, والحكمة هي أعلي مراتب التفكير في الإنسان, ولأن مهمة الرسول تتحرك في خطين: خط الوعي للحياة من خلال فكر يرفع به مستواها إلي الدرجات العليا, وخط العدل الذي يحل المشاكل التي يواجهها الناس علي صعيد الفرد والمجتمع. لذا فإن العلم يمثل قوة الرسول في شخصيته ومعارفه, كما أن الحكم يؤكد التزام العدل في حركته بإيصال كل صاحب حق إلي حقه, وهذا يأخذنا إلي حديث في غاية الأهمية كثير من الناس لا ينتبهون إليه, وهو حديث المرأة المخزومية التي سرقت وحاول أسامة بن زيد وكان يلقب بحب رسول الله أي حبيبه- أن يتشفع لها, فغضب الرسول صلي الله عليه وسلم كما لم يغضب من قبل واعتلي المنبر وقال:( إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد, والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها), هكذا يوضح لنا الحديث أن العدالة عندما تختل وتكيل بمكيالين فذلك سبب كاف لإهلاك الأمم وزوالها, ولذلك فمسئولية القاضي جسيمة. المزيد من مقالات عبد الهادى مصباح