كان الاكتشاف الأهم بالنسبة لنا في هذه الرحلة هو شعب المجر.. لم يكن استقبال فنانيه لنا في المطار بباقات الورود إلا بداية المودة الصادقة والعرفان بما اعتبروه جميلا يطوق أعناقهم. حين دعتهم جمعية أصالة لإقامة معرض بمصر خلال شهر مارس الماضي بقصر الأمير طاز.. ومع أن جمعية أصدقاء الفن المجرية ردت بدعوة لمجموعة من الفنانين المصريين تختارهم أصالة لإقامة معرض لأعمالهم في بودابست خلال شهر مايو بقاعة المركز الثقافي المجاور لأطلال قلعة تاريخية ويسمي كليبلسبيرج, وأن ذلك كان كافيا لرد الجميل( اذا اعتبرناه جميلا), فإن المجريين عملوا بمبدأ: إذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها! شعب المجر ابن الحضارة الأوروبية العريقة, لا يزال يحمل أهم صفاتها: النظام, النظافة, الجمال, الأناقة, احترام العمل والوقت, تقديس الحرية والثقافة, لكنه فوق ذلك كله يتميز بأنه شعب مضياف, رقيق الحاشية, بسيط بساطة أهل الريف, وهو مثل الريفيين يظهر الود للغرباء, ويمد لهم يد العون بغير انتظار لمقابل... لم يتركونا يوما بغير اصطحابنا إلي جولة في المدينة أو في الريف أو إلي حفل موسيقي أو إلي أحد المتاحف أو المعالم التاريخية, أو إلي وكالة دولية لتسويق لوحاتنا عبر الإنتريت.. لا علاقة للدعوة أو لما فعلوه معنا بأي بروتوكول رسمي بين الحكومات, بل كل العلاقة هي بين فنانين يمثلون جمعيتين أهليتين قررتا بناء جسر مشتعل للتبادل الثقافي والانساني. د.جورج كولمان نائب رئيس جمعية أصدقاء الفن كان أكثر من رفيق لنا طوال الرحلة التي استغرقت أحد عشر يوما, نيابة عن رئيس الجمعية النحات القومي للمجر بودا الذي بلغ مائة عام, كولمان ظل ملازما لنا أينما أردنا الذهاب أو أراد هو لنا بشعور بالمسئولية, إلي درجة أن البعض منا كان يضيق بثرثرته وحكاياته الطريفة وشروحه المستفيضة طوال الوقت بلغته الانجليزية المكسرة, مع أنه من النادر أن تجد في المجر شخصا يتحدث الإنجليزية, مما جعله المترجم الخصوصي لنا وقاموسنا المجاني لمعرفة المجر واقعا وتاريخا.. ولأنه يعمل محاميا ويعيش من هذه المهنة فقد سألته: ماذا فعلت بقضاياك طوال فترة تفرغك لنا؟ قال: أنتم الآن قضيتي! وخلال رحلة بالقطار اصطحبنا فيها إلي إحدي القري عرض علينا مجموعة ضخمة من الصور الفوتوغرافية التي التقطها بالقاهرة عبر ثلاثة أيام في أثناء زيارته الماضية, لم تكن بينها لقطة سياحية أو أثرية, بل كانت لملامح الحياة في أعماق الأحياء الشعبية والحواري والأسواق وعلي كورنيش النيل.. كان المصريون البسطاء يحيونه ويقبلون عليه بابتسامة عريضة, وهو الأمر الأكثر إثارة بالنسبة له, ما جعله يتجاهل ظروف فقرهم وتخلفهم وواقعهم التعس, ويتلمس صفات الجمال والثراء في كرمهم ومودتهم ورضاهم الذي يوحي بأنهم سعداء.. بودابست مدينة تاريخية وعصرية معا بكل معاني الكلمتين.. إنها عريقة العمارة بكل طرزها الأوروبية الكلاسيكية, وشديدة التميز بسلوكها الحضاري وبمعايشتها لتكنولوجيا العصر, وتيسير كل وسائل الراحة في الحياة اليومية لعاصمة يبلغ عدد سكانها حوالي مليون ونصف المليون.. هدوء ونظافة يتجاوزان خيالنا.. مواصلات عامة من كل نوع لا يوجد فيها كومساري أو مفتش للتذاكر, ومع ذلك فلا أحد يزوغ, لأن ذلك عار أكبر من السرقة وبات قيمة تترسخ في الضمير منذ الصغر.. بودابست مدينة معتزة بماضيها, محتشدة لمستقبلها, مشرقة رغم غيومها وأمطارها, يشقها نهر الدانوب إلي شطرين مختلفين تماما في جمالهما, القاسم المشترك بينهما أنهما متخمان بالمتاحف والحدائق وقاعات المعارض وتماثيل الميادين والنصب التذكارية والمسارح وقصور الثقافة التي كانت في الماضي قصورا للأمراء والإقطاعيين.. تغير النظام السياسي من الشمولية والاشتراكية إلي الديمقراطية والرأسمالية المتوحشة, وزاد معدل الفقر والبطالة وارتفعت الأسعار, ويئس الناس من تحقيق الوعود بأن يعم الخير بعد انضمام المجر إلي السوق الأوروبية المشتركة, لايزال قادة السوق يضنون عليهم بقبولهم ضمن اتفاقية اليورو حتي يلبوا شروطهم بالكامل, أي أن يمسحوا نهائيا أي أثر للقطاع العام ويسلموا اقتصادهم للخصخصة ويغيروا نمط الانتاج بتخفيض سقف الصناعة والتركيز علي إنتاج ما تحتاجه دول السوق, وفي ذلك حكم بالإعدام علي نصف الطبقة العاملة الصناعية, ومزيد من البطالة والفقر, وهكذا بقيت العملة المستعملة هي الفورنت التي ازدادت قوتها الشرائية انخفاضا فيما تغرق الأسواق منتجات دول السوق الأوروبية علي حساب المنتج المحلي. الحراك السياسي يتصاعد ويتفجر داخل البرلمان ويهدد بسقوط الحكومة. اللعبة الديمقراطية استنفدت أغراضها وبدأت الأحزاب الأخري غير حزب الحككومة تهدد بالانسحاب من العملية البرلمانية فتنذر بأزمة دستورية. كل شيء علي سطح صفيح ساخن ما عدا شيئا واحاد لم يدركه التغيير أو الانهيار.. هو الثقافة; فبالرغم من اهتزاز القناعات القديمة لم تتغير نظرة المجتمع إلي الثقافة كضرورة حياتية.. الرسم والنحت والموسيقي والغناء والمسرح والشعر لا تزال جميعا خبز الحياة اليومية. تحية الترحيب بنا في حفل افتتاح المعرض كانت رقصة غجرية قامت بأدائها راقصة باليد متمكنة, قوبلت بتصفيق حار تعبيرا عن احترام مجتمعي عميق لفنون الإقلية الغجرية كجزء من الثقافة الشعبية المجرية.. قاعة دار الأوبرا التي دخلناها لمشاهدة باليه سيبيليا كانت مكتظة عن آخرها بجمهور من كل الطبقات بينه نسبة كبيرة من الشباب.. د.كولمان مضيفنا كان يستشهد بأبيات من الشعر باللغة الهنجارية وهو يرحب بنا في حفل أقيم لتكريمنا في قرية صغيرة لا يزيد عدد سكانها علي ألف نسمة, لكنها تحتوي مثل كثير من القري الأخري علي متحف إثنوجرافي صغير يضم نماذج من وسائل العمل والحياة اليومية في الريف القديم, كما تحتوي علي متحف للفن التشكيلي الكلاسيكي ومسرح للهواة, وأماكن للترفيه والرياضة وحدائق مزهرة في كل مكان.. وعزف أمامنا أشبال من أبناء القرية علي آلات الكمان والبيانو والفلوت بمهارة تقارب أداء المحترفين.. هذا بينما غلب النعاس بعض فنانينا فلم يتسلموا الهدايا الرمزية لتكريمهم, وعندما عدنا إلي بودابست كان الشغل الشاغل لأغلبنا حتي آخر أيام الرحلة هو التسويق حتي آخر فورنت. ذهبنا بفننا كرسالة حضارية من أهل مصر إلي أهل المجر, فاستقبلوا الرسالة بحفاوة, حتي أنهم استبقوا المعرض ليقام من جديد في شهر يوليو ضمن الاحتفال بمدينة بيتش المجرية عاصمة للثقافة الأوروبية عام2010 وكانت سفارتنا في بودابست علي مستوي الرسالة, فلم يكتف السفير علي الحفني بافتتاح المعرض وإلقاء خطبة عن دور الفن والثقافة في تدعيم العلاقات بين الشعوب, بل استضاف الوفد المصري في منزله علي عشاء حضره إلي جانب أعضاء البعثة الدبلوماسية بعض ممثلي جمعية أصدقاء الفن المجرية, وكان مساعده النشط محمد برهان شعلة نشاط للخروج باللوحات من الجمارك ثم اتخاذ إجراءات إقامة المعرض سواء في بودابست أو بمدينة بيتش في يوليو القادم.. وتبقي في النهاية التحية الأكبر لرجل لولاه لما أقيم هذا الحدث أصلا, وهو رجل الأعمال د. محمود الليثي, الذي تحمل نفقات الرحلة كاملة دون إعلان أو ضجيج, إيمانا منه بأن الاستثمار يمكن أن يشمل العمل الثقافي ولو لم يكن له عائد مادي مباشر.. وذلك نموذج ما أشد حاجتنا إلي تكراره وانتشاره.