هنري كسينجر وزير الخارجية الأمريكية الأسبق, له مقولة هي: إن واشنطن تشبه حلبة المصارعة الرومانية التي يتقاتل فيها المصارعون. وكان يشرح بهذا الوصف, ان صناعة السياسة الخارجية الأمريكية ليست عملية هادئة الصنع, لكنها صدام أفكار, واختبار للقوة بين أطراف عدة, يستخدم كل منها قواه ومهاراته السياسية, في منازلة تنتهي بتحديد أي من السياسات العديدة المقترحة, سيكون لها الفوز والغلبة. وقصد كيسنجر بالمتقاتلين في حلبة المصارعة, القادة الكبار والمسئولين عن رسم السياسة بمن فيهم المسئولون التنفيذيون, والكونجرس, والخبراء السياسيون من ذوي النفوذ والمكانة, وجماعات المصالح, وقوي الضغط, والرأي العام. واليوم فإن أوباما مثل أسلافه من الرؤساء السابقين, محكوم بالنزول الي الحلبة, مع وجود اختلافات بين قدرات كل رئيس والآخر, فمنهم من يكتسب قوة في ملعبه في مواجهة بقية القوي المؤثرة في القرار, ومنهم من تتقلص أدواته وتجور قوة أخري من المجموعة, علي جزء من سلطاته وقدرته علي القيادة. وتأتي أسباب القوة والضعف من طبيعة النظام السياسي الداخلي, الذي يجعل السياسات الخارجية مطبوعة بالطابع المحلي, وبحيث تفرض علاقات القوي في الداخل, نفوذها علي شكل السياسة الخارجية, أكثر مما يحدث من تأثير للظروف التي تحيط بالمشاكل والأزمات في المناطق الاقليمية, وبصفة خاصة بالنسبة للسياسات المتبعة تجاه النزاع العربي الإسرائيلي. وهو ما ادركته اسرائيل, علي ضوء فهمها ودراستها للنظام السياسي الداخلي في الولاياتالمتحدة, فأقامت لها أركان ومواقع لإدارة عملية التأثير, ميدانيا, وهو ما لم يفعله العرب, حين ظلوا يتكلمون من داخل ميدانهم المحلي, دون ان ينتقلوا بأدوات تأثيرهم الي الميدان الحقيقي لصناعة السياسة الخارجية الأمريكية. وإسرائيل لا تكتفي بعلاقتها التقليدية والوثيقة مع الولاياتالمتحدة, ولا بكون حمايتها تعد مصلحة استراتيجية امريكية, ولا بأن التحيز لإسرائيل علي طول السنين صار جزءا من الثقافة السياسية في الولاياتالمتحدة, ولا حتي بقوة نفوذ الجماعات اليهودية الأمريكية, لكنها فوق ذلك كله تتحرك هناك يوما بيوم, لحشد وتعبئة العقل السياسي علي مستوي الحكم, والعقل الشعبي علي مستوي الرأي العام, من خلال شبكة من المراكز والمعاهد ابتداء من اللوبي اليهودي( الإيباك), ومراكز البحوث النشطة والعديدة, ومراكز صناعة المعلومات, والمختصة بملاحقة المسئولين في البيت الابيض, والوزارات, والكونجرس, والإعلام, بأوراق قد لا تزيد علي صفحتين تضمنها معلومات مصنوعة, وترسل بالفاكس والبريد الالكتروني, بحيث ان من يتسلمها ويقرأها بسرعة, وليست لديه إحاطة مسبقة بالمشكلة, التي قد تكون محل المناقشة لاتخاذ قرار بشأنها, يتأثر بما يقرؤه, عند اتخاذ القرار, أو عند التصويت لو كانت معروضة علي الكونجرس. وهذا يحدث الي جانب برامج المؤتمرات والندوات, والمناقشات التي تدور أولا بأول في معاهد ومراكز البحوث التي تتفق وتنسق مع المؤسسات, اليهودية والمناصرة لإسرائيل. إن قرار السياسة الخارجية ليس انفرادا يختص به الرئيس, صحيح ان هناك رؤساء يتمتعون في ظروف داخلية مواتية لهم بقوة تمكنهم من إزاحة قدرة بقية الأطراف, ومنهم أوباما, الذي لا يزال يتمتع بمساندة قاعدة مجتمعية واسعة النطاق, حملته الي البيت الأبيض, وبدعم غالبية مجتمع النخبة من أصحاب الوزن الثقيل, ومنهم وزراء خارجية سابقون, ومستشارون للأمن القومي, وعسكريون, وسفراء وأكاديميون سابقون, إلا أن هذا لا يعني انه ينطلق في سباق دون حواجز أو عوائق, لأنه يمشي فوق خريطة تحدد له حركته, بحركة الآخرين. ونلاحظ حسب إحصائيات عام2004, ان عدد جماعات المصالح وقوي الضغوط الاجنبية المسجلة لدي الحكومة الأمريكية يبلغ823 جماعة. ولو أننا تأملنا حال مراكز ومؤسسات الضغط فسنجد أن انشاء مركز بحوث عربيThinkTank والتي توصف بمصانع السياسة الخارجية, لا يتكلف اكثر من زيارة وفد عربي لمدة اسبوع واحد الي الولاياتالمتحدة. وكنت قد تناقشت أثناء عملي في واشنطن عام1998, مع شخصيات من العرب الأمريكيين, ومن سفراء امريكيين سابقين في الدول العربية, ممن عرفوا باسمArabists وهم خبراء في شئون المنطقة, ومن المتمسكين بأن اتخاذ سياسة متوازنة تجاه العرب وإسرائيل هو مصلحة آمن قومي للولايات المتحدة ودارت المناقشة حول إمكانية إنشاء مراكزThinkTank عربي هناك, وكانت المسألة في غاية السهولة. إن المعلومات التي يتم تداولها من وقت لآخر في واشنطن, تشير الي أن أوباما يستعد للدعوة قريبا, لمؤتمر دولي للسلام في الشرق الاوسط, يطرح فيه خطته للتسوية, وتكون هذه المرحلة قد مرت عبر خريطة الضغوط, وسجل كل طرف في النزاع أجندته, مستندا الي قدراته علي الفعل والتأثير, تلك هي طبيعة صناعة قرار السياسة الخارجية الأمريكية, والتي يبدأ ميدانها حسب وصف كسينجر, بحلبة المصارعة الرومانية في واشنطن.