إذا أردنا أن نعرف أحمد مرسي, ومن واجبنا أن نعرفه, وسيكون ذلك متعة لنا, وحظا حسنا, فعلينا أن نبدأ من الإسكندرية. والبداية من الإسكندرية ليست سهلة أو ميسرة, لأن الإسكندرية في جوهرها مدينة هيللينية, أعني أنها مدينة كونية تتسع لكل الأمم ولكل الثقافات, وهذا هو بابها الذي لا ينفتح إلا للعقول المؤمنة بوحدة البشر, والقلوب المنفتحة علي العالم كله. هذه الطبيعة الرحبة رحابة البحر, الغنية غناه هي التي أوحت للورنس داريل بكتابة روايته الرباعية الحافلة بالشخصيات والطبائع والسير. يونانيون, وإيطاليون, وشوام, ومصريون, وإنجليز.. مسلمون, ومسيحيون, ويهود.. تجار, وسماسرة, ومدرسون, ودبلوماسيون, وسيدات مجتمع, وفتيات ليل, وخدم, وشعراء, ورسامون هواة ومحترفون, وتلك هي الإسكندرية التي كان علي داريل أن يبدأ منها ويتساءل عن كنهها قبل أن يقدم لنا شخصيات روايته التي تمثل الإسكندرية كما تتمثل فيها الإسكندرية, وهكذا يجب أن نفعل نحن أيضا حين نتحدث عن أحمد مرسي, الذي رسمت الإسكندرية صورته قبل أن يرسم صورتها في قصائده ولوحاته: إسكندرية التجلي والخفاء. إسكندرية التشظي في الدماء إسكندريتي.. غيرأن هذه الإسكندرية التي صنعت أحمد مرسي أو رسمت صورته هي إسكندرية الثلاثينيات والأربعينيات التي لم تعد موجودة في هذه الأيام, وهذا هو مصدر الشعور الساحق بالاغتراب والفجيعة الذي نجده في شعر أحمد مرسي, خاصة في مجموعاته الأخيرة, وفي الأهداء الذي صدر به كتابه عن سلفه الإسكندراني اليوناني قسطنطين كفافيس مدينتي التي تغربت عنها سنوات طويلة, وكلما حاولت الرجوع إليها لا أعثر لها علي أثر, عوليس عاد إلي إيتاكا من زمان, وأحمد مرسي لم يعد, وقد عبرت أنا أيضا في بعض قصائدي عن هذا التيه, أو هذه العودة التي تبدو مستحيلة: ومدينة دلفي أعمدة تنهار وعرايا تجمد والصبار أبواب مدائن مهجورة ........ صعب أن تبحث في لا شيء عن لا شيء وتظل تعيد بستان حبيبي ليس بعيد! ....... فإذا كان أحمد مرسي قد فقد إسكندريته التي عرفها في طفولته وصباه, فهو لم يجد البديل في نيويورك التي يقيم فيها منذ سبعينيات القرن الماضي: لا أذكر أين هجرت سفينتي الغرقي هل وسط البحر؟ وكيف نجوت إذن من مأدبة الحيتان وأين تركت حقائب أمتعتي في ميناء جوي مهجور أم فوق رصيف محطة مترو أنفاق بمدينة أشباح لا يسكنها إنسان وهكذا ضاع بين المدينتين, الأولي التي فقدها, والأخري التي لم يجدها لأنه لم يجد فيها نفسه, إنه منفي فيها, والإسكندرية منفية فيه, وهو إذن مغترب عن نفسه, لأن حاضره ليس له, ولأن ماضيه لم يعد له وجود إلا في الذكري, أي في الشعر الذي بدأ به سيرته كفنان وهو شاب يافع في الإسكندرية, ثم هجره في السبعينيات وتفرغ للتصوير, ثم عاد إليه في العقدين الأخيرين لأنه أصبح في أشد الحاجة لأن يفصح, وأن يقول عن نفسه ما لا يمكن أن يقال إلا بالكلمات: مشيت تحت المطر الدامي بلا مظلة سوي وريقة بها أبيات شعر في هجائي للمطر. كان يريد أن يعبر عن حنينه الجارف للإسكندرية, ويصف تقلبه بين وطنه ومهجره, بين حاضره وماضيه, نيويورك, ومانهاتن, وسوهو من ناحية, وإسكندرية, ومحرم بك, والأزاريطة من ناحية أخري: لم يخالجني أي خوف علي الإطلاق لكني في الحقيقة أجفلت لأني في هذه اللحظة الحبلي تذكرت فجأة أنني أملك بيتا ولست أملك قبرا هاهنا أو هناك في إسكندرية! والفرق بعيد بين امتلاك البيت وامتلاك القبر.. ملكية البيت مؤقتة قصيرة, لأن البيت يستأجر, ولأن الإقامة فيه محدودة مهما طالت, لأن الحياة محدودة, والبيت إذن فندق تأوي إليه ليالي أو سنوات, ثم نرحل عنه, أما القبر فهو محل إقامتنا الدائمة في الماضي والمستقبل, ضم آباءنا وأجدادنا, وسوف يضمنا بعد حين, والفرق إذن بين البيت والقبر هو الفرق بين أرض الوطن وأرض الغربة, الغربة سفر, والوطن إقامة, والسفر زمن ضائع, أما الإقامة, فهي الزمن الباقي هي التاريخ الذي لا نتحقق إلا به, ولا نجد أنفسنا ولانشعر بالأمن بعيدا عنه. وأحمد مرسي في حديثه عن البيت والقبر لا يعبر عن شعوره الفادح بالغربة فحسب, بل يفسر لنا أيضا تاريخنا ويشخصه. لقد بقيت مقابر الأجداد علي حالها, وقامت البيوت علي أنقاض البيوت, والموتي في الريف يساكنون الأحياء ويجاورونهم, والأحياء في المدن يساكنون الأموات, والمسافة بين البيت والقبر لا تزيد علي خطوات, والقبر بهذا المعني ضمان لحياة متصلة, فإذا امتلكنا البيت ولم نمتلك القبر فنحن مهددون بأن نموت بعيدا عن تاريخنا, وهذا هو الموت الحقيقي الذي يهرب منه المغترب بالعودة إلي وطنه, فماذا يكون المهرب لو عاد المغترب إلي حيث كان وطنه فلم يجده؟ تلك هي التجربة العنيفة التي يقدمها لنا أحمد مرسي في قصائده ولوحاته, ويري فيها نفسه بين غربتين أو بين منفيين: كلما زرت إسكندرية لا يزعجني غير هاجس واحد ألا أراها فمنذ خمسين عاما, نصف قرن, هاجرت وحدي إلي مملكة التائهين بحثا عن المنفي الذي لا يشبه منفي الوطن! وليس أمامي ما أستطيع إضافته إلا أن أنبه القارئ الكريم إلي أن هذا الكلام موزون في البحر الذي يسميه الخليل بن أحمد الخفيف, وقد طوعه أحمد مرسي لكلامه فأصبح ينظم فيه دون أي تكلف, كأنه يتحدث أو كأنه يتنفس.. فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن!