الموضة في مصر الآن هي تمجيد الملك فاروق ورسم صورة وردية لعهد الملكية والترويج له علي أنه كان عصرا مثاليا توافرت فيه الديمقراطية والحرية بالإضافة إلي مظاهر الوجاهة والأبهة. والمشكلة أن الذين يقومون بتلميع عصر الملكية ينقصهم الكثير من عناصر إصدار الأحكام والفتاوي ومعرفة تطور تاريخ مصر والعالم منذ الحرب العالمية الثانية حتي اليوم. ففي هذه الحقبة القصيرة نسبيا تغير العالم تغيرا جذريا لا سيما علي الصعيدين السياسي والثقافي. لكن المزايدين الجدد لايهمهم فهم الواقع لإن لهم مآرب أخري. فبعضهم يستهدف بصفة أساسية الهجوم علي ثورة23 يوليو وتحديدا جمال عبد الناصر مع أن بعض هؤلاء كانوا من أشد مؤيدي الثورة ومن أكثر من استفادوا منها. البعض الآخر هدفه انتقاد العصر الحالي ويجد في الملكية أسلوبا ملتفا للتعبير عن رأيه. وكانت زيارة الأمير أحمد فؤاد ابن الملك فاروق الأخيرة مناسبة لانتعاش النزعات الملكية وطرح آرائها علي قارعة الطريق. وقد عرفت الأمير أحمد فؤاد في باريس منذ نحو ربع قرن واتضح لي من اللحظة الأولي للقاء مدي حرصه علي مد جسور العلاقات مع المصريين. وقد زارني بمنزلي أكثر من مرة ودعاني كثيرا إلي منزله بشارع فوش وهو أكثر شوارع باريس أناقة ويعتبر رمزا من رموز الطبقة الراقية في فرنسا. والتقيت به علي انفراد وفي مناسبات عامة متعددة علي مدي ما يناهز خمسة عشر عاما. لكني مع ذلك لا أدعي أنني صديقه وأني أعرف عنه كل شيء كما يدعي من التقي به بضع مرات ومن يقدمون أنفسهم علي أنهم' أصدقاء الأسرة المالكة'. وبرغم أنني أعرف الكثير عن شخصه وعن علاقته بزوجته السابقة فضيلة التي كانت تتصل بي كثيرا نظرا لولعها بالدعاية, إلا أنني بالتأكيد لن أتاجر بذلك ولن أسمح لنفسي بأن أبوح بكل ما أعرف وما كنت شاهدا عليه. وللحق فقد وجدت في الأمير أحمد فؤاد إنسانا دمث الخلق وراقي المشاعر يتحلي فعلا بأخلاق الأمراء كما نسمع عنها.. وحكي لي كثيرا عن نصائح أبيه الملك فاروق الذي كان بداخله حلم دفين فيما يبدو بأن تعود الملكية إلي مصر. أما السيدة فضيلة فكانت تقدم نفسها دائما في باريس علي أنها' ملكة مصر'. وأذكر أن أحد المسئولين بمنظمة اليونسكو اتصل بي يوما في بداية التسعينيات من القرن الماضي لاستشارتي في أمر وصفه بالمهم. فقد اقترحت عليه فضيلة إقراض اليونسكو لوحة فنية عن الأسرة المالكة لضمها إلي معرض كبير كان سيقام بمقر المنظمة الدولية واشترطت أن توضع تحتها لوحة معدنية مكتوب عليها:' مهداة من ملك مصر أحمد فؤاد الثاني'. وقد نصحت الرجل برفض هذا العرض وهو ما فعله. وبعد هذه اللمحة الشخصية الخاطفة تعالوا بنا نناقش الحجج التي يطرحها أنصار الملكية الجدد ولعل أولاها أن مصر كانت دولة ديمقراطية قبل الثورة وهذا أمر في حاجة إلي إعادة نظر. فقد عاشت مصر تحت ظل الانتخابات البرلمانية لمدة29 عاما, وكان حزب الوفد هو حزب الأغلبية دون منازع ولو كانت هناك ديمقراطية حقيقية لتولي حزب الوفد حكم البلاد طول هذه الفترة ولفاز في كل الانتخابات بأغلبية ساحقة.. لكن التاريخ يقول لنا إن حزب الوفد لم يحكم سوي سبع سنوات ونصف سنة في حين حكمت أحزاب الأقلية المكروهة من الشعب لنحو22 عاما.. وعندما أراد الانجليز ضمان استقرار مصر مع اقتراب قوات روميل النازية من الإسكندرية فرضوا علي الملك فاروق حزب الوفد بالقوة الجبرية في حادث4 فبراير الشهير. ولا شك أنه كان هناك قدر كبير من حرية التعبير في زمن الملك فاروق وازدهرت الصحافة بشكل ملحوظ.. لكنه كانت هناك قيود تلجم هذه الحرية يرمز إليها قانون' العيب في الذات الملكية' الذي تعرض بموجبه عباس محمود العقاد للسجن. ولعل أنصار الملكية الجدد ينسون أن مصر كانت دولة محتلة لا تمتلك الإرادة السياسية وأن الجيش البريطاني كان مرابطا في منطقة قناة السويس. ولعلهم ينسون أن مصر لم تحصل علي استقلالها السياسي إلا بعد انتهاء عصر الملكية. وأعلم أن البعض يؤكد أن مصر كانت في عهد فاروق دولة مستقلة ذات سيادة بموجب القانون, وهذا تبجح علي الواقع التاريخي. كما أعلم أن الأمر وصل بالبعض إلي الترحم علي زمن الاحتلال البريطاني واعتباره أفضل من عصر الثورة. لكن هذا الرأي لا يرقي إلي مستوي المناقشة وهو يدين أصحابه إدانة دامغة. ولا أعتقد أن هناك شعبا في العالم يري أن الاحتلال أفضل من حكم أبناء البلاد مهما كانت الظروف والملابسات. والذين يمجدون الملكية اليوم عليهم أولا أن يدركوا أن مصر لا تعيش بمعزل عن العالم وأن التاريخ أدان النظم الملكية الشمولية في العالم أجمع. حتي الأمير أحمد فؤاد يدرك ذلك ويتحدث دائما عن نظام ملكي دستوري أي مشابه لما هو موجود في انجلترا وهولندا علي سبيل المثال. ويذكر أن الملك فاروق قال في أحد الأيام:' بعد عشرين سنة لن يكون هناك سوي خمسة ملوك في العالم: ملك انجلترا وملوك الكوتشينة الأربعة'. وسواء صحت هذه المقولة أم لا فلا شك أنه كان يدرك اتجاه التاريخ وأنه سيكون فاروق الأول والأخير. ومن سخرية القدر أن يأتينا اليوم من يريد إعادة عقارب الساعة إلي الوراء. وفي القرن الحادي والعشرين لم يعد هناك في العالم ملوك بمفاهيم الماضي.. العالم العربي هو الوحيد الذي مازال به ملوك وأمراء يملكون ويحكمون. فعالمنا العربي له قوانينه الخاصة ولا علاقة له بركب الحضارة. والذين يتمنون عودة الملكية الآن كالذين يطالبون بالعودة إلي العصور الذهبية للإسلام.. ويبدو أن السلفية محفورة في جينات الإنسان المصري.. وأري أنه لا بد من التخلص منها إذا أردنا أن نقتحم بوابات المستقبل ونفتحها علي مصراعيها.