ليس في الأمر جديد, بل هو مألوف ومعتاد, فسنويا تحرص رئاسة الأركان العسكرية في العاصمة أنقرة علي تقديم كشف حساب خصوصا في معركتها ضد مكافحة الارهاب, وهي المعركة المستمرة منذ ثلاثة عقود. وفي السابع والعشرين من شهر يناير الماضي بثت من خلال موقعها الالكتروني احصائية أظهرت حصيلة القتلي في صفوف الانفصاليين, والذي بلغ عددهم العام المنصرم560 شخصا, إضافة إلي من تم اعتقالهم وأيضا الذين استسلموا طواعية إلي السلطات الأمنية, وبينت الأرقام كذلك عدد الأهداف التي دمرها الجيش التركي علي الحدود مع شمال العراق, حيث نقاط انطلاق حرب العصابات ضد المصالح العسكرية والمدينة في عموم الأناضول, وعدد الطلعات الجوية إلي آخره. وفي المقابل وهو المعتاد أيضا, انطلق السؤال المكرر عن الفائدة من تلك البيانات, هل المراد منها إشاعة أجواء الفرح واسعاد المواطنين وتطمينهم أن دماء أبنائهم من ضباط وجنود لم تضع سدي؟ أم هو رصد روتيني في إطار الشفافية وإطلاع الرأي العام من باب العلم والمعرفة, لا أكثر ولا أقل ؟ وبالتوازي كانت شبكة سكاي الفضائية المحلية تذيع أنباء عن هجوم وصفته بالإرهابي طال مخفرا للدرك ببلدة اروح(Eruh) التابعة لمحافظة سيريت(Siirt) جنوب شرق تركيا, وتمكن مرتكبوه من الهروب, ولم يمر سوي يومين إلا وشهدت مدينة بطمانBatman وهي ايضا قرينة لسيريت حيث غالبية السكان من الأكراد, انفجارا كبيرا أدي إلي وقوع اضرار مادية بعدد من البنايات دون سقوط ضحايا. ورغم أنها مشاهد تتكرر ولا تتوقف, إلا أنها باتت تشكل عائقا أمام الاتصالات التي بدأتها الحكومة منذ شهور مع منظمة حزب العمال الكردستاني الانفصالية, تمثلت بداية في لقاءات سرية جرت في العاصمة النرويجية أوسلو, مع قادتها المقيمين في بعض البلدان الاوروبية ثم انتقلت إلي قادة الداخل, وبأوامر مباشرة من رجب طيب اردوغان التقي هاكان فيدان رئيس جهاز المخابرات التركية مع عبدالله أوجلان زعيم المنظمة في حبسه حيث يقضي عقوبة السجن مدي الحياة في جزيرة إمرالي ببحر مرمرة غرب الأناضول, زاد علي ذلك وفي سابقة هي الأولي تم السماح لرموز حزب السلام والديمقراطية, الذارع السياسية للمنظمة للقاء أوجلان. ولأن الخطوة اتخذت, ولا يمكن التراجع عنها, كان علي رئيس الحكومة تحصين من يتولي تلك المفاوضات في مواجهة موجات الغضب خصوصا من قبل القوميين, ومن خلال البرلمان الذي يشكل حزب العدالة والتنمية الحاكم الأغلبية تم بالفعل إصدار قانون لا يسمح بمساءلة من يكلفهم اردوغان بإدارة حوار مع زعماء الاكراد وقبل اسابيع ثلاثة رفضت المحكمة الدستورية طعن المعارضة علي هذا التشريع, وهكذا فتح الباب علي مصراعيه أمام رئيس الحكومة ليواصل إنجاز ما عقد العزم عليه. وفي حوار تليفزيوني مؤخرا شدد أردوغان علي أهمية استمرار الجهود لحل القضية الكردية ومكافحة الإرهاب باستخدام كافة الوسائل المتاحة, إلا أنه دافع عن خطته في التفاوض مع أوجلان وقال إنه يدرك حجم المجازفة والمخاطرة في إشارة إلي مستقبله السياسي, مبديا استعداده لكل شيء, مشيرا إلي أن ما يفعله هو من اجل استقرار ورفاهة البلاد. هذا النهج التصالحي حتي وأن بدأ بعض جوانبه ضبابيا وجد ترحابا كرديا غير حذر كاشفا عن نية صادقة إحلال السلام وهذا ما أكدت عليه بريفان بولدن نائبة رئيس الكتلة البرلمانية لحزب السلام والديمقراطية مشيرة إلي ان الشعب الكردي متفائل إزاء سير المفاوضات الجارية بين الحكومة التركية وأوجلان. غير أن الطريق ليس مفروشا بالورود, إذ طلت حادثة مقتل ثلاثة ناشطات كرديات في فرنسا والتي اعتبرها رمزي كارتال, القيادي في المؤتمر الكردي الوطني الذي يضم عددا من الحركات الكردية في أوروبا جريمة سياسية بامتياز, والهدف واضح وهو نسف العملية السلمية التي شرعت الحكومة التركية بتدشينها, مؤكدا أن هناك قوي لا تريد حل المسألة الكردية ليس فقط داخل هضبة الاناضول, بل في الخارج موجها أصابع الاتهام إلي بلدان الجوار وتحديدا إيران. والشواهد علي احتمال ضلوع الأخيرة في تلك الواقعة كثيرة منها وهذا علي سبيل المثال لا الحصر, اتهاماتها لأنقرة بحماية اسرائيل لنصبها قاعدة لانظمة الرادارات في مالاطيا المدينة التركية الجنوبية والقريبة منها, اضافة الي رفضها سياسة العدالة الحاكم حيال بشار الأسد ونشر حلف شمال الاطلسي لصواريخ باتريوت علي الحدود السورية, كذلك العراق في ظل حكم المالكي, فهو الآخر يهمه زعزعة استقرار جاره نكاية في أردوغان الذي أحتضن نائب الرئيس العراقي طارق وتحالفه مع مسعود البرزاني وتوقيع اتفاقية مع إقليم كردستان لاستيراد النفط الخام رغم اعتراض الحكومة المركزية العراقية. لكن يبدو أن طلقات الرصاص الباريسية, لم تثن تركيا والأكراد عن مواصلة حوارهما ومن جانبه وفي خطوة تمهد لما هو أكثر أقر البرلمان التركي قبل اسبوعين مشروع تعديل قانوني يسمح للأقليات الدفاع عن نفسها أمام المحاكم بلغتها الأصلية وبالتالي صار بمقدور الاكراد الاقلية الأكبر ولأول مرة استخدام اللغة الكردية داخل أروقة المحاكم التركية. ولن يكون ذلك هو الاجراء الأخير فالحكومة تستعد لدرج عدد من المواد في الدستور التركي الجديد لصالح الاكراد أهمها رفع كافة الحواجز من أمام التعليم بلغة الام اضافة الي تخفيض الحد النسبي( ال10% من إجمالي الأصوات) المفروض علي الاحزاب السياسية للتمثيل بالبرلمان ومنح الحقوق الثقافية للاكراد وتقديم الدعم للادارات المحلية خاصة في مدن جنوب وجنوب شرق تركيا. ورغم كل ذلك تظل الشكوك والهواجس فقد سبق وحاول زعماء البلاد, ولكن دون جدوي, فهل يفلح اردوغان فيما فشل فيه السابقون؟ سؤال إجابته مازالت عصية!!