دراستنا لتجربة الصين لازمة للاستفادة منها, وأيضا لبناء علاقات متوازنة معها; لأنها ستكون قريبا أكبر اقتصاد في العالم. ولمعجزتها الاقتصادية كورشة للعالم قصة طريفة. فقد توقع المخطط الأمريكي منذ منتصف القرن الماضي حدوث مشكلات ديموغرافية بسبب انخفاض المواليد تحتم نقل الصناعات كثيفة العمالة لأماكن مناسبة مع الاحتفاظ بأرباحها. وبتعويم الدولار وإلغاء اتفاقية بريتون وودز عام1971 التي نظمت الاقتصاد العالمي بعد الحرب العالمية الثانية لصالح أمريكا;تمكنت أمريكا من التملص من التزام تحويل أكوام الدولارات التي أصدرتها لتحقيق السيطرة إلي ذهب حسب الاتفاقية. وهكذا انطلقت أمريكا تصطنع عجزا في موازنتها وتصدر أكوام الدولارات لشراء ماتريد( وتضع أيديها في جيوب الآخرين, بتعبير الرئيس الإيراني). وبسبب إرهاصات انهيار الاتحاد السوفيتي, وضعت الحكومة الأمريكية والمؤسسات المالية والصناعية الكبري تخطيطا جديدا للاقتصاد العالمي مستفيدة من الخلافات الصينية/السوفيتية( والفكر الحداثي لايتناقض في جوهره مع الشيوعية الصينية المعدلة بالطاوية والكنفوشية). وهكذا قدم نيكسون لماوتسي تونج عرضا يصعب رفضه, لإقامة شراكة رأسمالية/ شيوعية مفيدة, رغم ميلها بشدة لصالح أمريكا( حتي الآن نصيب الصين من القيمة المضافة للتبادل المباشر مع أمريكا حوالي9% فقط, والباقي للشركات الأمريكية). وهكذا تدفقت الاستثمارات الأمريكية لنقل الصناعات كثيفة العمالة للصين, ولغزو السوق العالمي بالمنتجات الصينية, دون السوق الصيني المحلي. ودعمت أمريكا وأرشدت كل خطوات تحرير التجارة معها. ولم تسمح لها( حتي الآن) باستخدام فوائضها التجارية لشراء أصول أمريكية, بل ادخارها فقط كسندات خزانة أمريكية متدنية العائد. وأصبحت الصين تمول عجز الحساب الجاري الأمريكي, ومكنت سلعها الرخيصة من خفض الأسعار في السوق الأمريكي وخفض إنفاق المستهلك لدفع النمو الاقتصادي. لكن الصين تمكنت بمهارة من نسخ التكنولوجيا بكل الوسائل ورغم الاتفاقات! وأسست صناعات صينية تماما غزت بها أسواق العالم دون شراكة أمريكية. وتمكنت من تطوير إداراتها وحماية الدولة من الانهيار, رغم جهود أمريكا. ولم تأبه لصيحات الجمعيات الأهلية الممولة أمريكيا واحتجاجات حقوق الإنسان, التي كانت حقا يراد به باطل. ومثل الاتحاد السوفيتي المنهار درسا مهما للصين. ونما اقتصاد الصين ليصبح قريبا أكبر اقتصاد عالمي, وليمثل تحديا للسيطرة الأمريكية الاقتصادية علي العالم. ورغم ندرة حدوث تحولات في القوة والسيطرة بين الإمبراطوريات بطريقة سلمية, إلا أن مصلحة الصين لاتزال مرتبطة بسلامة النظام المالي الاقتصادي العالمي الحالي, وتعاملاتها متشابكة مع أمريكا بما يستلزم التعاون وليس الصراع. لكن الحقائق الإستراتيجية المستقبلية تشير إلي أن مصالحهما لايمكن التوفيق بينها. فحاجة أمريكا والصين للخامات الأساسية وخصوصا البترول تتزايد, وتتحكم أمريكا في مصادرها وأسواقها وتسعيرها, وتضع العقبات أمام النمو الاقتصادي للدول المنافسة خاصة الصين. كما تتحكم في مضيق مالاكا, الذي تمر فيه معظم صادرات وواردات الصين. وتحاصرها بالقواعد العسكرية من كل جانب. وتحاول الصين التملص من الحصار بعقد تحالفات وتكتلات تجارية ومالية واقتصادية مثل الآسيان( منظمة الدول الآسيوية) ومجموعة البريكس( البرازيل وروسيا وإيران والصين وجنوب أفريقيا) واتفاقات ثنائية مع دول أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية. ورغم أن أمريكا تمول إمبراطوريتها بإحداث عجز في ميزانيتها, وإغراق العالم بطوفان الدولارات المصدرة إليكترونيا, إلا أن الصين تدير فائضها التجاري بكفاءة وتمول وتقرض غيرها, وتحتفظ بفوائض دولارية تصل إلي3 تريليونات. ولو لوحت الصين بالتخلص من فائضها الدولاري, فسينهار الدولار. وتعالج الحكومة الصينية الدين الداخلي وعجز الموازنة بطريقة مختلفة, حيث تمكنت من إبقاء دينها الداخلي منخفضا بشكل ملحوظ, رغم الإنفاق الحكومي الهائل. فما هو سر الصين العظيم؟ إنها المحاسبة الإبداعية التي ابتدعتها مؤسسات وول ستريت, التي تنقل بموجبها الديون من الدفاتر وتحول إلي أوراق مالية منتجة للفائدة. ولقد تمكنت الصين من إخفاء الديون الداخلية المستحقة علي الحكومة والشركات العامة لأنها لم تكن لدائنين أجانب, بل قروض من بنوك عامة مملوكة للدولة. وعندما انهار التصدير مع الأزمة العالمية, وجدت بنوك الصين نفسها فجأة متورطة في مليارات من القروض شبه المعدومة. وعندها أنشأت حكومة بكين شركات لإدارة أصول بنوكها الأربعة الكبري العامة, تماما كما فعلت مؤسسات ووستريت لإخفاء القروض العقارية المعدومة من دفاتر البنوك الأمريكية لإنقاذها في أزمة.2008 فاستبدلت تلك الكيانات الجديدة معظم قروض البنوك العامة المعدومة بأوراق مالية منتجة للفائدة تسوي حين ميسرة, فتكانت الصين هنا هي المستفيد وليس تكتل مصرفي خاص كحالة أمريكا. وانطلقت البنوك الصينية من جديد لإقراض المشروعات بعد أن تخففت من أعبائها, ومكنت الصين من تحقيق معدل نمو سنوي8% في حين عانت البلدان الأخري التي تعتمد علي الصادرات من الركود. وهذه المحاسبة الإبداعية كانت حيلة لازمة لمواءمة الواقع الاقتصادي مع المعايير المحاسبية المصرفية الغربية المصطنعة. وعجز الموازنة رقم محاسبي يعني إنفاق عام أكثر من الضرائب( أي نمو ينتج زيادة في الأصول الصافية يتعين أن يسبقه عجز موازنة, بشرط أن يضخ في قاعدة الهرم لكي لايتحول إلي ودائع بنكية), وسلع وخدمات بأسعار أقل من التكلفة, أي من الناس وإلي الناس. ويمكننا الاستفادة من التجربة الصينية, فنفعل الشيء نفسه مع ديون كل الوزارات والهيئات والمؤسسات الخدمية والشركات العامة للبنوك القومية, فننظف دفاترها بتحويل ديونه المشتقات تبادل الائتمان(CDS) لدي صناديق تنشأ خصيصا بفائدة محدودة, لتنطلق البنوك القومية مرة أخري لتمويل خطط التنمية الإنتاجية الوطنية. المزيد من مقالات د. صلاح عبد الكريم