يبدو ان العد التنازلي بدأ يتسارع لظهور نظام عالمي جديد متعدد الاقطاب الامر الذي تنبأ به العديد من علماء السياسة منذ الثمانينيات من القرن الماضي فبعد تفكك الاتحاد السوفيتي بدا ان الصراع الاوضح علي القطبية يجري علي جانبي الاطلنطي بين الولاياتالمتحدة والاتحاد الاوروبي وهو الصراع الذي اتخذ عدة اشكال علي الساحة السياسية في عدة مناطق من العالم غير انه كان اكثر وضوحا علي الصعيد الاقتصادي فشهدت منظمة التجارة العالمية معارك بين الجانبين تركز اهمها علي صادرات اللحوم الامريكية وقضية دعم الانتاج الزراعي في القارة الاوروبية. غير ان التطورات عبر اكثر من عشر سنوات مضت تشير الي تصاعد ظهور نجم قطب جديد علي نحو سريع يأتي هذه المرة من الطرف الآخر من العالم ولعل هذه التطورات علي الساحتين الاقتصادية والسياسية معا تبرهن علي صحة تنبؤات العلماء الذين توقعوا قبل عقد من الزمان افول دور الولاياتالمتحدة كقوة عظمي "وحيدة" علي الساحة الدولية خلال عقدين ومن اشهر اصحاب هذه التنبؤات "بول كيندي" استاذ العلوم السياسية بجامعة "ييل" الامريكية في كتابه الشهير "قيام وسقوط القوي العظمي" الذي تنبأ فيه بصعود الدور الصيني الي جانب الياباني والاوروبي علي حساب النفوذ الأمريكي. وها هي القوة العظمي التي استنامت لاحلام الهيمنة علي العالم طوال اكثر من عشر سنوات خلت تستيقظ علي واقع بات يروع قادتها ومحركي سياساتها الاقتصادية وهو واقع يتهدد بشدة الموقع الذي شغلته الولاياتالمتحدة طويلا كصاحبة اقوي اقتصادات العالم. ويتوقع تقرير نشرته مؤخرا صحيفة (كريستيان ساينس مونيتور) الأمريكية انه خلال عشرين عاما من الآن قد يصبح الاقتصاد الصيني اكبر اقتصاد في العالم متجاوزا الاقتصاد الامريكي الذي مازال يحتفظ بالمركز الاول منذ الحرب العالمية الثانية تقريبا كما حذر الكثيرون في امريكا من تزايد النفوذ السياسي للصين اقليميا. حبل سري وتزداد صعوبة الامر بالنسبة لواشنطن عندما نقرأ في نفس التقرير ما يقوله كلايد بريستوفيتز رئيس معهد الاستراتيجيات الاقتصادية في واشنطن: نحن نعيش الآن اعتمادا علي الحبل السري الذي يربط امريكا بالبنك المركزي الصيني الذي يضخ يوميا في الاقتصاد الامريكي اكثر من مليار دولار في اشارة الي ان البنك المركزي الصيني اصبح الممول الاول لعجز الموازنة الامريكية من خلال اقراض امريكا اكثر من مليار دولار يوميا في صورة مشترياته من اذون الخزانة الامريكية التي تصدرها حكومة واشنطن لتمويل العجز المتزايد في الموازنة ويشير الخبراء الي ان هذه القروض اليومية من الصين للخزانة الامريكية تحول دون ارتفاع اسعار الفائدة الامريكية الي مستويات عالية الامر الذي يزيد الفائدة علي الائتمان العقاري ويصعب بالتالي فرص المواطنين الأمريكيين في الحصول علي السكن وكما هو معروف فان ارتفاع اسعار الفائدة يصعب -ايضا- علي الشركات الامريكية تمويل استثماراتها. ورطة معقدة وشيئا فشيئا يجد القطب الاوحد صاحب اقوي اقتصادات العالم -حتي الآن- نفسه في ورطة معقدة يصعب التملص منها فبينما تحتاج الخزانة الامريكية الي هذا "الحبل السري" علي حد قول بريستوفيتز كما تحتاج الي استمرار فتح السوق الصينية الضخمة امام المنتجات الزراعية الامريكية فضلا عن حماية الاستثمارات الهائلة للشركات الامريكية العاملة في الصين يتزايد الشعور بالخطر لدي كل من النواب الجمهوريين والديمقراطيين في الكونجرس الذين يضغطون علي ادارة بوش لاتخاذ مواقف اكثر تشددا مع الصين. وبينما تتصاعد انتقادات الديمقراطيين بسبب هجرة ملايين الوظائف من سوق العمل الامريكية الي الصين يبدي الجمهوريين تخوفهم من السرعة المفاجئة التي ينمو بها الاقتصاد الصيني ويحسبون حسابا كبيرا لما سيواجهونه من انتقادات خلال انتخابات الكونجرس عام 2006 بسبب فقدان ملايين الوظائف لصالح الصين خلال السنوات الاخيرة. ورغم نجاح الادارة الامريكية في اقناع الصين برفع سعر صرف عملتها المحلية "اليوان" امام العملات الرئيسية الاخري بما قد يخفف من ضغوط اغراق السوق الامريكي بالسلع الصينية فضلا عن مناوشات امريكية تتراوح بين اثارة قضايا حقوق الانسان في الصين وانتهاكات حقوق الملكية الفكرية او التلويح بعقد صفقات سلاح مع تايوان من ناحية وتوجيه الانتقادات لبكين لعدم ممارستها الضغط علي كوريا الشمالية فيما يتعلق بملفها النووي من ناحية اخري مازالت مساعي واشنطن للعرقلة دون صعود نجم التنين الاصفر علي نحو يهدد عرش القطب الاوحد تتخبط ولا يبدو انها ستحقق نجاحا. سياسة المكيالين ويجد بعض الأمريكيين الجرأة في انفسهم لتوجيه الانتقادات للصين والتحذير من ان تسارع نموها الاقتصادي يمكن ان يسبب كارثة للعالم كما لو انه يجب الا يسمح بالنمو سوي للاقتصاد الامريكي فقد نشرت وكالة الانباء الفرنسية عن لستر براون رئيس معهد "ايرث بولسي" (سياسة الارض) تحذيره من ان استمرار الوتيرة الحالية للنمو الاقتصادي السريع في الصين يمكن ان يشكل ضربة قاضية للعالم في حال لم تقم بكين وباقي دول العالم بتعديل نمطي الانتاج والاستهلاك ويضرب براون مثلا علي ذلك خلال تقديمة لكتابه الاخير "خطة بديلة لانقاذ كوكب وحضارة معرضة للخطر" ان اقتصادنا العالمي يسير في اتجاه بيئي لا يمكن للأرض ان تتحمله واعتبر في مواصلة لسياسة الامريكيين الذين لا يتورعون عن النهي عن الشيء والاتيان بمثلة انه يجب اقناع الاقتصاديين في الصين بضرورة اعادة هيكلة النظام الاقتصادي بل انه يهاجم الاقبال الصيني علي الاستهلاك فيما اسماه محاكاة الحلم الامريكي كما لو انه حلال علي الامريكيين حرام علي غيرهم فيقول: اذا استمرت الصين في محاكاة الحلم الامريكي يتوقع ان يستهلك سكانها بحلول عام 2031 ما يعادل ضعف الانتاج العالمي من الورق ويقول: هكذا ستختفي الغابات عن الكوكب. غير ان الواقع لا يعدم وجود خبراء امريكيين ايضا يتمتعون بالحصافة والتعقل فلا يدفعهم الهلع من تنامي القوة الصينية الي الاكتفاء بمهاجمة الخصم وينقل تقرير كريستيان ساينس مونيتور الذي اشرنا اليه عن كلايد بريستوفيتز دعوته لان تغير الولاياتالمتحدة من سلوكها حتي تتمكن من التعامل مع قوة عظمي اخري مستدركا ولكن المشكلة اننا مازلنا نتعامل مع الأمر بشيء من التكذيب والانكار كما حذر يستوفينز في كتابه "الرأسماليون الجدد في الالفية الثالثة" من صعود الاقتصادات الاسيوية واستمرار العجز التجاري للولايات المتحدة الذي يتحول الي احتياطيات ضخمة من الدولارات الامريكية لدي الصين وغيرها من دول اسيا. [email protected]