أثيرت مجددا قضية حرية الإبداع ومحاولة تقييدها عبر مايعرف بقضايا الحسبة, وذلك علي هامش قيام وزارة الثقافة المصري بطبع كتاب ألف ليلة وليلة, وهو الأمر الذي يعد إعادة انتاج لقضايا كثيرة مشابهة جرت في السنوات الماضية كان أبرزها قضية المفكر المصري نصر حامد أبو زيد, وماتلاها من طلب مصادرة رواية وليمة لأعشاب البحر ومحاولة وقف عرض فيلم بحب السيما والمطالبة بجلد المخرجة ايناس الدغيدي بسبب فيلمها مذكرات مراهقة من قبل محام قيل إنه عضو في الحزب الوطني الديمقراطي, وقضية الحسبة ضد الدكتورة نوال السعداوي والمحاولات العديدة لتكفير الدكتور سيد القمني. والأهم من ذلك أن مايحدث الآن في قضية ألف ليلة وليلة لن يكون الفصل الأخير في مسلسل الحسبة ومحاولات تقييد حرية الابداع في مصر, حتي وأن انتهت تلك القضية برفض النائب العالم لتفعيل الموضوع وإحالته إلي القضاء, أو شئ من هذا القبيل. فالسبب الأساسي لتكرار تلك القضايا هو حالة التخلف التي وصل إليها المجتمع, والأهم أن مايحدث مقنن بنصوص تشريعية. وجدير بالذكر هنا أن ماأثارته قضية الدكتور حامد أبو زيد من جدل قد أدي إلي تعديل القانون في عام1996, فتم قصر حق اقامة دعاوي الحسبة علي النائب العام فقط, فأصبح الوحيد صاحب الحق في تحريك دعوي الحسبة في الأحوال الشخصية ضد الشخص الذي يتعرض للأديان أو الثوابت, وهكذا لم يعد من حق الأفراد اللجوء مباشرة إلي القضاء لرفع قضايا الحسبة. وهو الأمر الذي لم يغلق الباب تماما أمام هذا النوع, القضايا وإن كان قد حد منها إلي حد ما, إذ رفض النائب العام علي سبيل المثال تحريك قضية الحسبة ضد الدكتورة نوال السعداوي علي خلفية ماقيل بأنها أساءت إلي الإسلام. الغريب في الأمر أنه كلما رفعت قضية حسبة ضد عمل أدبي أوفني يثور المدافعون عن الحرية ويهاجمون رافعي الدعوة ويتندرون علي الأيام التي كان هامش الحرية أوسع فيها بكثير مما هو عليه الآن, ويعبرون عن انزعاجهم الشديد مما يحدث وكأنما قد فوجئوا به أو لم يكونوا يتوقعونه, مع أن الواقع مغاير لذلك تماما. فلماذا لا يقطع الطريق بالقانون علي كل من تسول له نفسه تهديد حرية الإبداع والتعبير, فتلغي مثلا قضايا الحسبة ويتم تغيير أو إلغاء المواد الموجودة في القانون التي تعطي الحق لبعض عناصر المجتمع باللجوء إلي القضاء في حال وجدوا مالايرضون عنه في كتاب أو فيلم أو ماشابه. إذ تنص المادة178 من قانون العقوبات علي أن يعاقب بالحبس لمدة سنتين والغرامة لمن ينشر مطبوعات أو صورا خادشة للحياء العام, فضلا عن مصادرة الكتاب الذي صدر ضمن السلسلة المذكورة. أي أنه طبقا لما هو موجود حاليا في القانون, فإن رافع دعوي الحسبة ليس مجرما بأي حالة من الأحوال, ولكنه يستخدم الحق الذي منحه له القانون. وإذا كنا ننادي بحرية التعبير ونعمل علي حمايتها فيجب الا نطيح في سبيل ذلك بقيم وحريات أخري. إذ لايختلف أحد علي ضرورة التعبير عن الاختلاف بصرف النظر عن طبيعة ذلك الاختلاف والمجال الذي ثار بشأنه بشكل سلمي طبقا للقانون. وهنا لابد من اعادة النظر لفعل رفع قضايا الحسبة باعتباره عملا غير مؤثم قانونا بل هو تنفيذا للقانون الحالي, ولابد من النظر أيضا إلي رافعي قضايا الحسبة باعتبارهم أشخاصا مصريين وجدوا في مؤلف ماأشياء لاترضيهم فقرروا الاعتراض عليها وبحثوا في الطرق السلمية فوجدوا أن القانون يعطيهم حق إبلاغ النائب العام لعله يحيل هؤلاء إلي القضايا, وبالتأكيد فإن رافعي قضايا الحسبة يسيئون استخدام مواد القانون وحق التقاضي, ولكن ذلك لاعلاقة له أبدا بمشروعية مايفعلون. فالمهدد الحقيقي لحرية الرأي والتعبير لدينا هو القانون بما يحتوي من مواد, وتغييرها أو إلغائها كفيل بفرملة هذا التهديد أو القضاء عليه. إن من حق الجميع أن يختصموا أية أعمال يرون فيها أشياء مؤثمة بحكم القانون بصرف النظر عن صحة أو خطأ مايرون, ماداموا يتبعون في اختصامهم هذا الأساليب القانونية, في إطار احترام حق الآخرين في الدفاع عن انفسهم. ومن ثم فإن القضية الاساسية يجب أن تكون كيف يكون الاختصام ومن يحق له الحكم في هذا الاختصام والسبل الكفيلة بحماية الطرفين المختصمين من عدم الجور علي حق أي منهما لأسباب شخصية أو دينية أو ما إلي ذلك. فليس كل من يعترض علي إبداع ماهو بالضرورة ضد حرية الابداع ويريد الردة بالمجتمع إلي عصور الظلام, ويصبح أمامه إما أن يلزم بيته ويغلق فمه, إلا أصبح متهما بمعاداة حرية الفكر والإبداع, ويالها من تهمة في الوقت الراهن. وأخيرا, فإنه ينبغي التأكيد علي أنه إذا كان من الواجب ألا تتحول حماية حرية الفكر والإبداع إلي سيف مسلول يضعه البعض علي رقاب الجميع, فحرية الفكر والإبداع ليست بقرة مقدسة لايجوز الاقتراب منها مهما كانت الظروف. كما أنه إذا كان من حق البعض أن يبدع, فإن الاعتراض يظل حقا يكفله القانون للجميع وينظم ممارسته, حتي ينجح المجتمع بمثقفيه ومبدعيه في تغيير القانون ليصبح رفع قضايا الحسبة عملا غير قانوني, وليقضي المجتمع علي أحد أهم أعراض تخلفه.