عبد الكريم يعقوب : منذ ما يقرب من511 عاما وبالتحديد في الساعات الأولي من فجر اليوم الأول من يناير عام8981 ولد شاعر الرومانسية الكبير ابراهيم ناجي في حي شبرا العتيق بالقاهرة التي حملت اسم ديوانه الشعري الثاني ليالي القاهرة وكان شاعرنا يقصد بكلمة الليالي هي ليالي الحرب العالمية الثانية والتي كان تضفي علي ليالي القاهرة وعشاقها كآبة غير معتادة وظلاما غير محبب وغير معتاد. والقاريء لديوان ليالي القاهرة والذي كان يضم بعض قصائد ناجي الأولية في الحب والغرام سكب فيها روحه العاشقة والمعذبة بالحب والفراق والبكاء علي الأطلال كالطائر الجريح الباكي, والغريب أن ناجي ضمن هذا الديوان ظهر بملحمته الشعرية الخالدة التي وصل فيها الي الذروة وهي الأطلال التي شاء القدر أن تكون سببا قويا في بروغ شهرته المدوية عندما غنتها سيدة الغناء العربي أم كلثوم واختارتها منظمة اليونسكو العالمية كأغنية القرن العشرين علي مستوي العالم العربي. وقد اختار أبيات الأغنية من بين الأطلال الشاعران أحمد رامي وصالح جودت لكي تغنيها أم كلثوم, وقد وصف ناجي الأطلال بأنها قصة حب فاشل كتب الزمن لها نهاية عاثرة ثم التقي بعده الحبيب بحبيبته بعد أن صارت اطلال جسد وروح, وقد اختار رامي وجودت بعض أبيات من قصيدة العودة وضماها الي الأطلال التي كانت ملحمة في ديوان ليالي القاهرة وهي الأجمل في شعر ناجي كما يقول النقاد. وقد حاول ناجي في قصائد ديوانه ليالي القاهرة أن يرد علي الدكتور طه حسين في نقده لديوان ناجي الأول وراء الغمام فأخذ ناجي يزيد من طول القصيدة وعمقها وليؤكد أنه شاعر طويل النفس, واضطر ناجي الي أن يعدد هذه المرة في ليالي القاهرة في أغراض الشعر في مناسبات مختلفة خاصة القصائد العاطفية التي كان يميل فيها ناجي كعادته الي الشدو الحزين والتشاؤم والميل الي الفطرة. وقد تميز شعر ناجي بأنه شعر رومانسي وجداني مع الاهتمام بتصوير التجربة الذاتية كما يقول الناقد الكبير الدكتور محمد مندور. وقد أسهمت الطبيعة الشاعرية لحي شبرا زمان في تكوين روح ناجي الرومانسية حيث شهد الحي قصة حبه الأول حينما يعود يدفعه الحنين الي بيت حبيبته ويقول: هذه الكعبة كنا طائفيها والمصلين صباح ومساء كم سجدنا وعبدنا الحسن فيها كيف بالله رجعنا غرباء واستمر ناجي علي حبه ووفائه لحبيبته الأولي التي شهد حي شبرا قصة هذا الحب الذي سبب له الجراح والذكري الأليمة في حياته. ورغم أن ناجي برومانسيته تنقل الي العديد من الحبيبات بعد ذلك ظل يبكي حبه الأول الي أن مات في عام2591 ورغم ذلك فإنه يمكن القول إن ابراهيم ناجي كان سعيد الحظ لأن والده أحمد ناجي كان مثقفا مقبلا علي معرفة العلوم والأدب مما جعله يمتلك مكتبة ضخمة تضم الآلاف من الكتب في مختلف انواع العلم والأدب وباقي فروع المعرفة الأخري, وعندما ورثها ابرهيم ناجي عنه كانت هذه المكتبة بمثابة المدرسة الأولي في حياته كما كانت هي المنهل الذي أصقل ثقافته الأدبية والشعر به رغم انه التحق بعد ذلك بكلية الطب جامعة القاهرة التي تخرج فيها عام.2291 ولكن كيف تحول ناجي بشخصيته الرومانسية الوادعة الرقيقة التي جعلته مولعا بالتيار الرومانسي الذي يركن الي اللوعة والشكوي والأنين؟ يرد ناجي ويجيب علي هذا السؤال بقوله: في السنة التي قررت فيها أن التحق بالقسم الأدبي أرسل الله لنا معلما سوريا لم يكن ينظر لي وإلا ويتوسم في شيء لا أعلمه جعله يؤمن بأنني قد أكون نابغة في الرياضيات وكثيرا ما دخل الفصل وهو سكران ثم يأخذ يضرب ويشتم ويلعن وأنا صابر لا اتفوه بكلمة ولكن رحمه الله كان طيب القلب يخفي خلف هذه القسوة لنا نفسا من الذهب فكان يلاطفني بعد أن يقسو ويطلب مني واجبات خاصة ثم يعود في اليوم الثاني ليسألني في خشونة هل عملت الواجبات ولم أخيب ظنه مرة واحدة ولهذا كان تقدمي سريعا ولقد كان تأثير هذا المعلم في مستقبلي كبيرا فقد غيرت التحاقي بالقسم الأدبي واتجهت للقسم العلمي والذي تفوقت فيه مما أهلني للالتحاق بكلية الطب وتخرجت فيها طبيبا. ويقول الشاعر والأديب صالح جودت في كتابه ( ناجي.. حياته وشعره) ان ناجي عندما قرر ان يدرس الطب ربما كانت تراوده فكرة تعيش في عقله الظاهر او في عقله الباطن او فيهما معا وهي أنه ولد ذا عله كما ولد أكثر أخوته ولقد كانت هذه العلل تزعجه وتزعجهم وتملأ جو البيت قتاما حزينا ولهذا أراد أن يكون طبيبا رغم انصراف قلبه الي الأدب لعله يستطيع يوما ما أن يقشع هذه السحب القاتمة من جو نفسه واجواء اخوته. وكانت نفس ناجي قد مالت الي الفنون والآداب الأجنبية بخاصة في مراحل تكوينه الأولي وقد ذكر ناجي بعد ذلك أنه قرأ قصة التلميذ لبول بورجيه في لغتها الفرنسية وهو صبي لأنه أحب فتاة رآها تقرأها فحاول ناجي أن يتودد اليها بقراءة القصة التي تقرأها رغم الصعوبة التي وجدها في الفرنسية في ذلك الوقت. ثم قرأ ناجي وترجم بعد ذلك قصصا كثيره لرواد الرومانسية في الأدبين الانجليزي والفرنسي من أمثال فيكتور هوجو ولامارتين ودي موسيه ثم تحول من قراءة القصص الي قراءة الشعر واعجب بشعراء الرومانسية من الانجليز من أمثال بيرون وشيللي ومن الفرنسيين بودلير وفيرلان, كذلك درس ناجي احمد شوقي وحافظ ابرهيم وخليل مطران واحب من الشعراء القدماء المتنبي والشريف الرضي. ويقول الأديب الأستاذ سامي الكيالي إنه سأل ابراهيم ناجي قبيل وفاته عن الشاعر الذي استهواه شعره واستهوته حياته أكثر من غيره فأجاب: هناك شاعران فقط درستهما جيدا واحببتهما حبا صادقا كبيرا وكان لهما أثر كبير في حياتي وتفكيري. الأول: هو وليم شكسبير وقد حاضرت عنه كثيرا وما يعجبني فيه أنه غير محدود فهو واسع كالفضاء متغير كالطبيعة التي تجمع بين الجبل الأشم والفقاعة الصغيرة وفوق ذلك فهو صادق ولذلك احببته كشاعر وصديق وسوف اقراه ابدا ولا أمل قراءته الثاني: المتبني والذي جعلني أحبه هي رجولته التي تبدو في كل بيت, وأحبه أيضا لأنه كان انسانا يتكلم عن لسان الانسانية باجمعها يشرح القلق المستمر في أعماقها والعذاب الملازم لأعصابها ويكشف كشفا عجيبا ذلك الطلاء المزيف الحقير الذي تستر به ذلك القلق والعذاب. وقد انضم ناجي الي جماعة ابولو للشعر والتي انشأها الشاعر احمد زكي ابو شادي وترأسها أمير الشعراء احمد شوقي ثم خلفه بعد وفاته خليل مطران وقد أتيح لناجي أن ينشر انتاجه الشعري من خلال المجلة الأدبية لجماعة ابولو ولم يكتف ناجي بالشعر بالعربية فقط بل نشرت له مجلة ابولو ما ترجمه ناجي من الفرنسية مثل قصيدة البحيرة للشاعر لا مرتين. وقصيدة الريح الغربية للشاعر الانجليزي شيلي. ويقول الأديب بشير عياد إن من خصائص شعر ناجي واغراضه الطبيعة والغزل والرثاء والمديح والوطنيات غير أن الخط الذاتي الوجداني هو واجهة ناجي فقد أفني عمره يبكي تجربته الكبري الخائبة قبل اختراع الحكايات حول ملهماته من الممثلات فلم تكن حبيبته وملهمته إلا واحدة من قريباته كانت تمثل له الدنيا وما فيها ولكنها تزوجت غيره فظل ناجي يبحث عنها في كل امرأة يلتقي بها كانت هي الحلم الذي تحول الي قصيدة طويلة تعزف باستمرار. كانت هذه الحبيبة هي كل الحب فأصبحت تمثل له كل المآسي والجراح التي جعلته يبكي كثيرا علي اطلالها وينزف شوقا اليها.