في مقال نشرته صحيفة' نيويورك تايمز'في مارس سنة2000 اعترفت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت بأن الانقلاب علي الإرادة الشعبية في إيران وإسقاط حكومة مصدق في أغسطس1953 كان نكسة للتطور السياسي في ايران, ويمكن من خلاله فهم السبب في استمرار استياء الايرانيين من التدخل الأمريكي في شئونهم الداخلية. وفي السياق نفسه يؤكد ستيفن كنزر الاستاذ في جامعة باروك إيرفاند مؤلف كتاب' جميع رجال الشاه:الانقلاب الأمريكي وجذور الرعب في الشرق الأوسط', الذي أعتبره من أهم الكتب التي وثقت لهذه المرحلة وحللت النتائج والتداعيات التي ترتبت علي عملية إسقاط مصدق.. أكد كنزر أن هناك خطوطا واضحة تربط بين العملية اجاكس- وهو الاسم الكودي لهذه العملية- وبين الحكم التعسفي للشاه والثورة الإسلامية وصولا إلي اشتعال كرات لهب التطرف التي التهمت في النهاية مركز التجارة العالمي في نيويورك. والوقائع التاريخية تؤسس لحقيقة واضحة هي أن محاولة سرقة إرادة الشعوب والانقلاب عليها لا يمكن أن تمر علي الشعوب القوية القادرة علي الفعل وعلي صنع مصيرها وواقعها وبناء نظامها السياسي,وإذا حدث ذلك في أي لحظة من لحظات التاريخ فإن الشعوب لا يمكن أن تنسي ولا يمكن أن تتغافل عن سرقة إرادتها وستحاسب من يجرؤ علي ذلك وإن طال العهد والزمان, وربما تؤدي هذه السرقات إلي ترويج وتفريخ التطرف والإرهاب الذي يحرق أول ما يحرق أصابع هؤلاء الذين تآمروا علي إرادة الشعوب وحقه كمصدر للسلطة. مبكرا وفي الشهور الأولي لتولي مصدق بدأت محاولات متكررة استهدفت وبشكل واضح إسقاط رئيس الوزراء الايراني حيث فضلت بريطانيا تدبير انقلاب عسكري. ولكن وفي هذا الوقت رفض الرئيس الأمريكي هاري ترومان الفكرة, وعندما تولي إيزنهاور مقاليد السلطة في الولاياتالمتحدة بعد ذلك أمر الCIA بالشروع في أولي العمليات السرية لها ضد حكومة أجنبية, حيث بدأ الانقلاب الذي دبره اثنان من عملاء وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية وهما كيرمت روزفلت حفيد الرئيس الامريكي تيودور روزفلت ونورمان شوارزكوف والد القائد العسكري الامريكي المعروف. هذه العملية التي أسقطت الحكومة المنتخبة ديمقراطيا بقيادة' مصدق' الذي كان الشاه قد عينه بموجب الدستور رئيسا للوزراء في.1951 صحيح أن تلك العملية الأمريكية ما كانت لتنجح لولا تعاون ومباركة الإنجليز أصحاب النفوذ والمصالح والاستثمارات النفطية في إيران الخمسينيات وأيضا لم تكن لتنجح لولا الأخطاء التي وقعت فيها حكومة مصدق خصوصا في الجوانب الفنية في إدارة مرفق البترول بعد التأميم, حيث نجحت سياسة التطويق والتعويق الذي وضعته بريطانيا في تضخيم هذه الاخطاء وجعلها مشاكل مؤثرة ومؤلمة حيث شعر الناس أنهم لم يجنوا من سياسة التأميم التي ناضلوا من أجلها إلا مزيدا من الصعوبات والعثرات. وفي الوقت الذي كان يواجه مصدق المشاكل الاقتصادية والسياسية كان التشويه الإعلامي ضد الرجل علي أشده والذي كان جزءا من خطة الانقلاب التي كان من ضمنها أيضا إغراء البعض بالمال وتحريضهم علي الخروج الي شوارع طهران في مظاهرات معادية لحكومة مصدق عن طريق الرشوة والتشهير وتدبير أعمال الشغب. فلقد انتحل بعض المخربين أسماء شخصيات شيوعية وهددوا الزعماء والرموز الدينية لإحداث فتنة وانقسام في المجتمع الايراني كما لقي نحو300 شخص مصرعهم في معارك بالبنادق في شوارع طهران. واجتمعت عناصر النجاح الثلاثة لتنفيذ الانقلاب:' التعويق الاقتصادي والتشويه الاعلامي والترويج للعنف', وفي19 اغسطس1953 أطيح بمحمد مصدق وبقرار تأميم النفط وكان ما كان بعد ذلك.. حيث أطاح الانقلاب بالحكم الوطني وعاد الشاه إلي إيران بعد أن هرب إلي روما وحدثت المذابح المفزعة والتصفيات التي استهدفت مناصري مصدق والذي قدم للمحاكمة التي لم تطل طويلا وصدر بعدها الحكم عليه بالإعدام, لكن الشاه خفف الحكم الي السجن مدة ثلاث سنوات ووضع مصدق بعدها تحت الاقامة الجبرية في مزرعته. وكان كروميت عميل المخابرات الامريكية هو الذي طلب من الشاه تخفيف حكم الاعدام الي السجن حتي لا يصبح مصدق بطلا وتثور الجماهير مرة أخري. وزاد النفوذ الأمريكي بعد ذلك, وتم تعزيز الجيش الإيراني بمختلف الأسلحة الأمريكية وزاد نفوذ جهاز المخابرات' السافاك'وانحسرت الحركة الوطنية وزاد نفوذ الشاه داخليا وخارجيا خاصة بعد ارتفاع أسعار النفط وتوزيع الشاه أراضي زراعية علي أربعة ملايين فلاح. ولكن التخمر الثوري الذي بدأ في نفس التوقيت هو الذي خلق في رحم الوعي ثورة جديدة ظهرت للوجود بعد اكثر من عقدين وبالتحديد في16 يناير1979 حيث غادر الشاه والملكة إيران نزولا عند طلب رئيس الوزراء الدكتور شابور بختيار, والذي كان لفترة طويلة زعيما للمعارضة,وظهرت مشاهد الثورة في كل مكان, ودمرت خلال ساعات' كل رموز سلالة بهلوي', وأعلن بختيار حل السافاك, وأفرج عن السجناء السياسيين, ووعد بانتخابات حرة وأمر الجيش بالسماح للمظاهرات الشعبية. وفي نفس درس التاريخ وفي نفس السياق وفي مكان آخر من العالم يمكن ان نقرأ نفس المعني ونبصر نفس القدرة التي تمتلكها الشعوب في معاقبة من يحاول سرقة ارادتها.. يمكن ان نقرأ ذلك في المحاولات التي قام بها السوفيت وباستخدام المخطط نفسه مع شعب أفغانستان عندما قام السردار محمد داود خان صاحب الميول الشيوعية بالانقلاب علي الملك محمد شاه في سنة1973 وبعدها وبعد عدة انقلابات من قيادات مرتبطة بالنظام السوفيتي سرقت أحلام الشعب الأفغاني في تطوير واستقرار نظامه السياسي والاقتصادي, قام السوفيت باجتياح أفغانستان في25 ديسمبر1979, وباقي الأحداث معروفة وما ترتب عليها أيضا واضح شديد الوضوح, حيث سقط الاتحاد السوفيتي متأثرا بحرب افغانستان التي أوصلته الي نهايته,وظلت أفغانستان تعاني حتي الآن من جراء التدخل في ارادة شعبها. إن انتباه الشعوب في اللحظات المفصلية من تاريخها وفي لحظات التغيير والانتقال هو قارب النجاة وهو الدرع الت تصد أية محاولات تقوم بها بعض القوي الاقليمية التي ربما تستشعر الخطر من التغيير أو من القوي العالمية التي تحاول الهيمنة والسيطرة من أجل تمرير مصالحها علي حساب حرية وكرامة الشعوب النامية والساعية لتطوير قدراتها واستكشاف مصالحها.. وفي النهاية كل التحية للثورة المصرية ولشعب مصر العظيم. المزيد من مقالات د.ياسر على