فى كتابه الشهير (لعبة الأمم) (Game Of Nations)، روى لنا رجل المخابرات الأمريكى السابق (مايلز كوبلاند)، كيف خططت ونفذت المخابرات الأمريكية، بالتعاون مع المخابرات البريطانية، خطة الانقلاب على الرئيس الإيرانى المنتخب ديمقراطياً، قائد أول ثورة مدنية حقيقية فى (إيران) عام 1953م .. لم يكن (محمد مصدق) عسكرياً، يضع النياشين أو الأوسمة، بل كان اقتصادياً مدنياً، تم انتخابه نائباً برلمانياً، عن دائرة (أصفهان) الإيرانية، عام 1906م، وهو بعد فى الرابعة والعشرين من عمره، وبعدها سافر (مصدق) إلى (فرنسا)؛ لاستكمال دراسته، ثم إلى (سويسرا)، التى حصل منها على شهادة الدكتوراه، فى القانون الدولى، وعاد إلى (إيران)، ليتبوأ منصب وزير المالية، فى حكومة (أحمد قوام السلطنة)، عام 1921م، ثم منصب وزير الخارجية، فى حكومة (مشير الدولة)، عام 1923م، وبعدها أعيد انتخابه كنائب فى البرلمان، عن الدائرة نفسها ... ومع انتخابه للمرة الثانية، بدأ (محمد مصدق) حركة مناهضة لعسكرة الحكم، وقام بالتصويت ضد انتخاب (رضا خان) شاهاً على (إيران)، فى تحد سافر مباشر للنظام القائم ... وفى عام 1925م، ظهر نضوجه السياسى واضحاً، عندما أسس (الجبهة الوطنية)، أو (جبهة ملى)، مع الدكتور (حسين فاطمى)، و(أحمد زاركزادة)، و(على شاكان)، و(كريم سنجابى)، وصار قائداً لها، وكان أهم أهدافها تأميم النفط الإيرانى، وبالتحديد شركة النفط الأنجلو- إيرانية، والتى كانت تسيطر تقريباً، على عالم النفط فى (إيران) كلها... ولقد احتدم الصراع بين (محمد مصدق) والشاه (رضا)، مع بدايات أغسطس عام 1953م، وعلى الرغم من استهتار الشاه بالأمر فى البداية، وشعوره الزائف بقوته وقوة أمنه، إلا أنه سرعان ما أدرك قوة (مصدق)، فآثر الفرار إلى (إيطاليا)، عبر (العراق)، إلا أنه، وقبل فراره مباشرة، وقع قرارين مهمين ... القرار الأوًَّل بعزل (محمد مصدق)، والقرار الثانى بتعيين الجنرال (فضل الله زاهدى) فى موقعه ... وعبر الاتصالات المباشرة مع الشاه، بدأت المخابرات الأمريكية فى دراسة الموقف فى (إيران)، مع المخابرات الانجليزية، التى أقلقتها فكرة تأميم شركات النفط الأنجلو- إيرانية، وتم الاتفاق على أن يتولى ضابط المخابرات الامريكى (كيرميت روزفلت) تدبير انقلاب عنيف، يطيح بحكومة (مصدق)، ويساعد الشاه على العودة إلى (إيران) منتصراً، مقابل إلغاء قرار تأميم شركات النفط، ومنح نسبة كبيرة منها للشركات الأمريكية، وبدأ (كيرميت روزفلت) فى وضع خطة الانقلاب، عبر عملية أطلق عليها اسم (عملية أجاكس) (Operation Ajax) ... وفى نفس الوقت، الذى قصف فيه الجنرال (زاهدى) منزل (محمد مصدًَّق)، وسط مدينة (طهران)، بدأ (كيرميت روزفلت) فى تنظيم حملة دعائية مناهضة لحكم (مصدق)، فى وسائل الإعلام الإيرانية والعالمية، كما نجح فى إقناع كبير زعران (إيران)- فى ذلك الحين- (شعبان جعفرى)، بالسعى للسيطرة على الشارع الإيرانى، ودفعه إلى القيام بتظاهرات فى الشارع الإيرانى، تردد هتافات رخيصة مهينة، تحط من قدر (مصدق)، وتسقط هيبته ... فى نفس الوقت وضع خطة؛ لاغتيال الزعامات الإيرانية البارزة، المؤيدة للرئيس (محمد مصدًَّق)، وأبرز قيادات (جبهة ملى) ... وفى وضح النهار، وفى قلب الشارع، تم اغتيال الدكتور (حسين فاطمى)، على نحو أرهب الكثير من القيادات ... ومع تواصل (كيرميت روزفلت) فى تنفيذ خطته، بدأت شعبية (مصدق) تتراجع بالفعل، وسيطرة الجنرال (زاهدى) تتزايد، حتى أتى الوقت، الذى صار فيه من الممكن أن يعود الشاه ظافراً إلى (إيران) .. ومع عودة الشاه، تم إلقاء القبض على (محمد مصدًَّق)، فى نفس الوقت- تقريباً- الذى ألغى فيه قرار تأميم شركات النفط، وأوفى الشاه بوعده، ومنح الأمريكيين نصيباً كبيراً فى عالم النفط الإيرانى، وبدأ نظامه الأمنى (السافاك) فى اعتقال كل من وقف إلى جانب (مصدق) ... ولقد أقيمت محاكمة صورية للرئيس (مصدق)، وصفها المراقبون بانها مهزلة قانونية، على كل المستويات، ووصفها (جليل بزركمهر)، محامى (مصدق)، بأنها لم تكن تتمتع بالحد الأدنى من الحيادية، أو الشروط القانونية السليمة ... وفى نهاية تلك المحاكمة الهزلية، صدر الحكم على (محمد مصدًَّق) بالإعدام ... وكانت صدمة للمجتمع الإيرانى، وصدمة أخرى للمخابرات الأمريكية، فقد كان (كيرميت روزفلت) يرى أن إعدام (مصدق)، سيحوله إلى أسطورة شعبية، وربما يساعد على إعادة ولادة (جبهة ملى) من جديد، لذا فقد سافر بنفسه إلى (طهران)، والتقى بالشاه العائد وأقنعه، أو ربما أجبره، على إصدار قرار بتخفيف الحكم على (مصدق)، من الإعدام إلى السجن الانفرادى لمدة عامين، ثم الإقامة الجبرية مدى الحياة، فى قرية (أحمد اباد)، فى شمال (إيران) ... وبينما كان الدكتور (محمد مصدًَّق) يجتر ذكرياته، فى منفاه الإجبارى، كان (كيرميت روزفلت) يتباهى بنجاحه فى تغيير مصير أمة كاملة، عبر سلسلة الخداع، التى رتبها بمنتهى الدقة، والتى استعان فيها بالشعب الإيرانى نفسه، الذى منح آذانه للشائعات، التى نشرها (كيرميت) فى المجتمع، وارتفع غضبه، فتحًَّول، دون أن يدرى، إلى سلاح فى قبضة هذا الأخير، يحرًَّكه وقتما وكيفما يشاء، ويصوَّبه إلى صدر كل من يشاء... وهكذا روى لنا (مايلز كوبلاند) فى كتابه التفاصيل، وروى لنا أيضاً كيف كانت المخابرات الامريكية تصنع بديلاً، لكل شخصية عالمية، يمكن أن تتعارض معها يوماً، بحيث يمكن لتلك الشخصية البديلة، ان تفكًَّر تماماً كالشخصية الأصلية، وأن ترى الامور بنفس عيونها، وتعطى نفس ردود افعالها، حتى تكون مرآة اختبارية، لكل رد فعل منتظر، من كل زعيم عالمى، ووسيلة شديدة الفاعلية؛ لتحديد كيفية التعامل معه، وهدمه إذا ما اقتضى الأمر ... والحديث عن المخابرات الأمريكية يطول ويطول، والحديث عن تقنية التجسًَّس التى تبتكرها، أو تسعى للاستفادة منها أطول، وتنافسها فى هذا، وطوال الوقت تقريباً، المخابرات السوفيتية، والتى اختلفت عنها فى الاهتمام بمجالات فوق فيزيائية، مثل التخاطر العقلى، وقراءة الأفكار، و... لابد من حديث آخر.