مع كل رئاسة أمريكية جديدة يتردد في ارجاء العالم العربي ذات السؤال: من الذي يرسم ملامح سياسة الرئيس الجديد؟ وهل كل رئيس له سياسة مستقلة عن الذي سبقه, أم أن الأمر يتجاوز الرئيس إلي المؤسسات الأمريكية والفاعليات والجماعات التي تمثل مصادر التأثير الحقيقية في عملية رسم تلك السياسات؟؟. مما لا شك فيه أن القيم السياسية الرئيسية التي يعتنقها الأمريكيون إلي حد كبير هي واحدة بالنسبة للحزبين الرئيسيين الجمهوري والديمقراطي علي حد سواء, كما أن هناك توافقا مشتركا بين النخب الأمريكية بشأن القيم الأساسية التي تخص الملكية الخاصة والحكومة ذات الصلاحيات المحدودة, والحرية الفردية, واحترام القانون. ومن دون الخوض في تفاصيل الشئون الداخلية الامريكية يتعين علينا أن نتذكر أن هذا الإجماع يشمل أيضا الرغبة في ممارسة النفوذ في الشئون العالمية والحفاظ علي دفاع وطني قوي, وحماية كل الحكومات الموالية للغرب من التخريب والعدوان الخارجي.. هل من ترجمة لهذا الحديث علي أرض الواقع لجهة الشرق الأوسط تحديدا؟ ربما يتحتم علي المرء أن يعيد قراءة المناظرة الثالثة والأخيرة بين رومني وأوباما وحتما سيخلص إلي وجود تقارب شديد للغاية فيما خص المواقف السياسية الخارجية وفي الشرق الأوسط تحديدا, وأولي تلك المواقف الاتفاق المطلق بين الاثنين علي دعم أمن وأمان إسرائيل وتوفير الحماية اللازمة لها. يعني ذلك ان هناك منهجا توافقيا أيديولوجيا عاما يتبعه الرؤساء الأمريكيون بغض النظر عن شخوصهم أو انتماءاتهم الحزبية, وقد بات واضحا أن الرغبة في ممارسة الولاياتالمتحدة نفوذها في الخارج هو جزء من توافق النخب فيها, علي الرغم من تعارض هذه الرغبة أحيانا مع ما تريده الجماهير. لكن المشكلة أكثر تعقيدا في الواقع, بما أن سخرية الديمقراطية, هي أن الحكومة هي حكومة النخب ومع ذلك قد لا تكون النخبة الحاكمة علي الدوام, حرة في تحركها. فعندما لا تكون هذه النخبة رهينة حساباتها الانتخابية, فإنها تبقي رهينة المجمع الصناعي العسكري ومصالح الشركات التجارية الكبري. من يؤثر بدرجة أو بآخري في عملية صناعة القرار السياسي الأمريكي؟ هناك في واقع الأمر مجموعة من الأطر التي يحتاج كل منها إلي قراءة تفصيلية, مثل السياسيين, والنخب الجاهزة للإيجار, ونخب الشركات وهؤلاء يوضعون عادة في سياق, يعرف بعملية إعادة إنتاج النخبة. ثم هناك المجمع الصناعي العسكري الأمريكي وكذلك مراكز البحوث ودراسة السياسات. ولعلنا نتوقف مع إطارين فقط لتبيان مدي تأثيرها في رسم تلك السياسات الخارجية وأولاها المجمع الصناعي العسكري فهذا المجمع هو تسمية تشمل القوات المسلحة ووزارة الدفاع والشركات التي وقعت عقودا عسكرية, وأعضاء الكونجرس الذين يمثلون الجماعات المصلحية ذات الصلة بشئون الدفاع. ويبدو أن الرئيس أيزنهاور تنبأ بصعود قوتهم ونفوذهم, وهو ما تجسد أثناء ولايته بمطالب ملحة لزيادة الإنفاق العسكري أما الإطار الثاني فيتمثل في مراكز البحوث ودراسة السياسات والتي باتت مصدرا آخر لتوظيف النخب, وتمثل بلا شك أفضل مراكز تجمع النخبة من الخبراء والمتخصصين. وبحسب ريتشارد هاس المنظر الشهير للسياسات الخارجية الأمريكية فإن من بين العديد من الجهات التي تمارس التأثير في صياغة السياسة الخارجية الأمريكية, تعد مراكز بحوث ودراسة السياسات الأكثر أهمية وأولي خصائص هذه المؤسسات البحثية المستقلة أنها بالأساس ظاهرة أمريكية تمارس منذ نحو قرن التأثير في التزامات أمريكا في المسرح العالمي. ولعل ريتشارد هاس نفسه يمثل خير نموذج علي قوة تأثير تلك المراكز في صناعة القرار الاستراتيجي الأمريكي للسياسات الأمريكية ففي الأسبوع الأول من حرب أكتوبر عام1973 وعندما كان وزير خارجية أمريكا هنري كيسنجر يستعد للسفر إلي الشرق الأوسط لانقاذ إسرائيل, نصحه هاس بان السياسات في العالم العربي تتلخص في عبارة واحدة الشيخ والخيمة, بمعني أن الدول العربية ليست سوي قبائل وعصبيات وأن كل دولة ليست إلا خيمة كبيرة وداخلها شيخ هو الذي يحدد ملامح ومعالم تلك الدولة وسياساتها, وأنه إذا قدر لأي مفاوض خارجي أن يتوصل إلي اتفاق مع شيخ الخيمة, وقد عمل كيسنجر بالفعل بنصيحته, وتعامل مع الرئيس السادات علي هذا النحو, ما كلف انتصار أكتوبرالعسكري لاحقا ثمنا سياسيا فادحا. والمؤكد انه غالبا ما تختار النخب الحاكمة الأمريكية ما يخدم مصالحها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية, حتي لو تعارض هذا الاختيار مع القيم التي تحملها, تلك النخب نفسها, وهذا يؤكد ويرسخ القناعة السائدة شرق أوسطيا بأن أمريكا دولة مزدوجة الأوجه ذات سياسات ذرائعية تضحي علي مذبح القيم والأخلاقيات بكل غال ونفيس من أجل تحقيق منافعها, فهل يعي العرب الجدد معني ومبني ومغزي هذا الحديث؟.