دهشور.. تلك الكلمة التي تعني في الأذهان منطقة عسكرية علي أول طريق القاهرةالفيوم.. هكذا يظنها الكثيرون, وهكذا ظننا نحن أيضا ونحن ننطلق بسيارة الأهرام في مهمة صحفية تهدف للدخول للمنطقة الأثرية بدهشور للوقوف علي حقيقة المقابر التي تجرأ الأهالي علي الزحف بها إلي منطقة من أهم مناطق مصرالأثرية التي تحوي عددا من المجموعات الهرمية والأثرية و كانت جبانة بني فيها الملك سنفرو مؤسس الأسرة الرابعة اثنين من أهراماته الثلاث, وهما الهرم المنحني والهرم الأحمر, وقد كان الأخير أول هرم كامل في مصر هرم سنفرو كما أنها تضم كنوزا أثرية حيث عثر بها علي أكثر من اكتشاف أثري من الذهب داخل أهراماتها ومقابرها, وتعد من مواقع التراث العالمي التابعة لليونسكو. ولكن الحقيقة التي اكتشفناها بسؤال أحد المجندين المرابضين علي السور للحراسة أن المنطقة العسكرية لا يمكن أن تكون مدخلا لمقصدنا, ومن هنا عدنا أدراجنا إلي شارع الهرم لندلف يمينا حسب الوصف بمجرد أن نجد لافتة مكتوب عليها طريق سقارة البدرشين.. وهنا بدأت الرحلة علي الطريق الأسفلتي الذي لا يخلو من مطبات وعرة وأتربة, ولا تملك فيه سوي السير علي أقل سرعة ممكنة لأنك ستتقابل في معظم مناطقه وجها لوجه مع سيارات النقل الثقيل المحملة بالطوب والرمال والأحجار والتي علمنا فيما بعد أنها من نتاج المحاجر الكثيرة المنتشرة هناك. التصوير ممنوع!! المزلقان المتهالك كان أول علامة الوصول لدهشور وهناك بدأنا ندخل إلي القري وبدا الطريق مهجورا وازدادت مطباته وحفره قسوة لدرجة أن السيارة توقفت أكثر من مرة, وهمس لنا مرافق من أهالي المكان أن الرحلة تحتاج سيارة دفع رباعي, وبالفعل أكملنا الرحلة مع سيارة أحدهم وصولا لمنطقة المقابر.. وكان أكثر مالفت انتباهنا هو هروب الأهالي من أمامنا وتجنب الحديث معنا بأي كلمة بمجرد أن نكشف لهم هويتنا الصحفية وهدف مهمتنا, لدرجة أن من رافقنا بسيارته ذات الدفع الرباعي طلب منا التوقف عن إبراز الكاميرا خوفا من حدوث مشكلات أبسطها سيكون جلسات عرب مع من تطوع بمساعدتنا علي الطريق الوعر, فاحترمنا رغبته دون أن نتنازل عن هدف مهمتنا. البيت الوقف!! مع ذلك كان واضحا من بعض كلمات مقتضبة سمح بعض الأهالي بأن يقولوها لنا أن هناك إيمان كامل بحق الأهالي في الزحف بمناطق مقابرهم لاستيعاب الزيادة المطردة في أعداد السكان, وبالتالي إحتياج العائلات لمدافن لموتاهم,لأن الجبانات الحالية لا تكفي, وبدا كذلك أن القضية تمس الكرامة والعصبية حيث قال أحدهم: عار علي عائلاتنا ألا تجد مكانا لإكرام موتاهم, أما مشكلة أن التوسع في بناء الجبانات يتم علي حساب أراض من الممكن أن تحوي كنوزا أثرية فكان رد أحدهم: ولماذا لا يقومون بالانتهاء من عمل المجسات التي تكفي لحسم هذا الأمر, مستنكرا أن يتم رهن مساحات كبيرة من الأراضي لسنوات طويلة دون أن ينتفع بها أي طرف الدولة أو الأهالي لمجرد احتمال يمكن نفيه أو تأكيده ببساطة, ورغم اقتناع من تحدثوا إلينا بحق الأهالي في التوسع بمنطقة الجبانات إلا أن ذلك لم يمنعهم من الإعتراف بأن للدولة حقا يجب أن تتقاضاه كثمن للأرض المقامة عليها المقابر الجديدة, ولكن المشكلة علي حد تعبيرهم ليست في إمتناع الإهالي عن سداد حق الدولة, ولكن في أن الآثار تجعل الأرض مثل البيت الوقف لأنها تحت سيطرتها فلا الدولة تستطيع بيعها اوالانتفاع بها ولا الأهالي يستطيعون شراءها, ومما يذكر أن حقيقة احتياج الأهالي لعمل امتداد لمنطقة المقابر الأصلية أمر لم يخف علي المسئولين بالآثار الذين صدرت عنهم تصريحات تعني ضرورة وضع احتياجات الأمر الواقع في الحسبان وإيجاد حل وسط يلبي الحاجة لمدافن جديدة, ولا يقضي علي حقوق الدولة الأثرية في الوقت ذاته وتتبقي المشكلة في أن الأمر يحتاج وقتا بينما الأهالي لاتريد التأني والصبر. مصانع الطوب بدون ترخيص عندما تجولنا وتكلمنا مع أهالي آخرين اكتشفنا أن المشكلة ليست فقط في الجبانات, ولكن هناك نهب كبير لحقوق الدولة بدهشور بدأ بشكل منظم وقوي بعد إندلاع الثورة وإن كان موجودا قبلها منها التوسع في إقامة مصانع الطوب الأحمر والتي همس أحدهم في آذاننا وهو يقودنا لأقرب منطقة يمكننا من خلالها تصوير أدخنة المصانع أن عددها تجاوز مائة مصنع معظمها مقامة بدون ترخيص ولا تعطي الدولة حقوقها,وكذلك العديد من المحاجر التي تستخرج كنوز الأرض من طفلة وطوب ورمال, والتي تصل إليها كهرباء ومياه رغم كونها مخالفة وبدون ترخيص. المخالفات في حماية السلاح الآلي وكما أن مهمتنا الصحفية تستهدف الكشف عن مشكلة التعديات في دهشور فإنها لا تتجاهل كذلك البحث عن حلول وهي تبدو كما أوجزها لنا إبراهيم ربيع حمزة رئيس الوحدة المحلية لقرية دهشور في عودة قوة الدولة وهيبتها علي مختلف المستويات, مشيرا إلي أنه قبل الثورة لم يكن ليجرؤ أحد علي الإقتراب من المنطقة الأثرية لأن السيطرة والرقابة كانت متوفرة علي مستوي جيد, أما الآن فحتي الخفراء المكلفين بالحراسة لا يملكون سوي سلاح عادي في حين يملك المعتدون الآلي بوافرة, كذلك الموظفون التنفيذيون لا يملكون سوي تحرير محاضر بأي مخالفات أو تعديات علي الأراضي, ولكن لا أحد يملك إزالة التعدي, فتنفيذ قرارات الإزالة أصبح أشبه بالمهمة المستحيلة في هذه الظروف, وبالتالي فالأهم هو منع التعدي من أوله وليس الانتظار حتي الانتهاء منه ثم البحث عن إزالته, مشيرا إلي أن القوة الوحيدة التي يعمل لها المعتدون ألف حساب هي الجيش, الذي لا يجرؤ أحد علي الإقتراب من حدود منطقته العسكرية, لأنه يتحرك وبسرعة لكن المشكلة أن المقابر لا تتبع الجيش وإنما تتبع الآثار وبالتالي فهو لا يتحرك ولولإخافة المعتدين. القبور ضاقت بسكانها!! ويوضح محدثنا أن مشكلة تعديات المقابر أبرز ماتكون في منشية دهشور وهي إحدي القري الخمس التابعة للوحدة المحلية لدهشور وباقي القري هي: منشية كاسب ومزغونة ودهشور وزاوية دهشور ويبلغ تعداد سكان القري الخمس بنجوعها وتوابعها نحو ربع مليون نسمة, ولكل قرية منها مقابرها التي إما تخصها لوحدها أو تشترك فيها مع قرية أخري, ورغم أن منشية دهشور لها مقابرها التي تشاركها فيها قلعة المرازيق وهي قرية قريبة منها إلا أن المقابر ضاقت بعائلات القريتين, واحتاجوا للتوسع الأفقي لتلبية احتياجات الدفن وهو ما أدي لظهور المشكلة التي طفت علي سطح المجتمع ولفتت الأنظار, خاصة عندما بدأت عملية البناء تقترب من هرم سنفرو وخاصة مع عدم وجود رقابة ومتابعة من شرطة الآثار, ونفي محدثنا أن كون الهدف من بناء الجبانات الإتجار فيها من قبل فئة من السماسرة, وقال الحقيقة أن الأهالي فعلا يحتاجونها لدفن موتاهم. ..ولايزال الصراع مستمرا انتهت جولتنا وعدنا إلي مكاتبنا محملين ليس فقط بتراب الرحلة الصعبة وإنما أيضا بخوف كبير علي بلد خفت فيه الرقابة, ووهنت فيه الدولة وغاب الأمن والحماية, فاستباح الجميع أرض بلادنا, وبدا لنا كأن الأموات والأحياء في دهشور يتصارعون علي نهب خيرها... من المؤكد أن مشكلة قلة المدافن هناك لها ألف حل, ومن المؤكد كذلك ان الآثار تستطيع أن تصدر حكمها في الأراضي المعلقة الموقوف حالها, لكن المهم أن تعود الرقابة وأن يخرج المسئولون من مكاتبهم ويتحملوا مثلما تحملنا طرقا شاقة أو وعرة لإيقاف نزيف التعديات ولإنقاذ مايمكن إنقاذه من دهشور.