لم اكن من المحظوظين الذين سنحت لهم الفرصة للعمل مع أستاذنا الراحل محمود السعدني, إلا انني عندما دخلت مجال الصحافة كان الراحل محمود السعدني احد أهم اسباب انجذابي لهذه المهنة التي تزخر بالمتاعب, وفي ايامنا هذه, تزخر بما هو اسوأ من المتاعب بكثير. كان السعدني وسيظل أبد الدهر عمدة الصحافة المصرية, عبقريا ساخرا استطاع أن يمزج هموم هذا البلد وكبواته بخفة دم لم ولن يضاهيه فيها احد. رصد السعدني عذاب المصريين وصبه في قالب من سخرية قاتمة ولكنها تنتزع الضحكة من قلبك في احلك الأوقات ابتدع السعدني مصطلحات وصفت واقع مصر بدقة متناهية يعجز عن الوصول لها أباطرة البحث السياسي والاجتماعي, وعبر عنها ببساطة ابن البلد وبإيداع كاتب وهبه الله موهبة فريدة لن تتكرر. كان قلمه سوطا يلذع بقسوة, ولكنها لذعات امتزجت بسخرية سعدنية صادقة تدمي القلب وتضحكه في عبقرية عميقة لن يجود الزمان بمثلها. تربيت مراهقا علي كتب الراحل العظيم. انبهرت بمذكرات الولد الشقي والطريق إلي زمش وتمام يافندم كنت انتظر في لهفة وشوق صادقين مقال علي باب الله كل خميس وهذا الرجل كل أربعاء في المصور والأهرام الرياضي. وبالرغم من دراستي للعلوم السياسية وعملي بها كباحث في مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام, إلا أنني مؤمن أن ماكتبه السعدني عبر وسيظل يعبر عن حال هذا البلد وواقعه بعبقرية صادقة وفلسفة ساخرة تعجز عن الوصول لها مئات الدراسات السياسية؟ قابلت عمنا محمود السعدني مرة واحدة في لندن منذ خمس سنوات, وبالرغم من مرضه الشديد في ذلك الوقت, إلا انه كان كما تصورته دائما, ساخرا, ضاحكا, حريصا علي مصر. سيبقي الولد الشقي مدي الدهر مثالا لنا كصحفيين, يمكننا فقط أن نحلم بالاقتراب من مكانته الرفيعة وقامته العالية والتي ستبقي محفورة في تاريخ وضمير الصحافة المصرية. رحمك الله ياأستاذي.