انتشرت في مجتمعاتنا بصورة لافتة للنظر ظاهرة الرشوة واستغلال النفوذ, بحيث أصبح هذا الأمر نمطا مألوفا وشكلا معتادا, فما هو موقف الإسلام من الكسب الحرام؟ وكيف كافح استغلال النفوذ والرشوة؟ لقد فتح الإسلام آفاقا واسعة للإنسان في أن يمارس نشاطه الذي يؤدي إلي كسب ماله وتنميته, نلحظ ذلك في قوله تعالي هو الذي خلق لكم مافي الأرض جميعا( سورة البقرة/ آية29), وقوله وسخر لكم مافي السماوات ومافي الأرض( سورة الجاثية/ آية13), وقوله فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور( سورة الملك/ آية15), وقوله وأحل الله البيع وحرم الربا( سورة البقرة/آية275), وبين القرآن الكريم أن المال في الحقيقة هو مال الله, وأن الإنسان مستخلف فيه, قال تعالي آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه( سورة الحديد/ آية7), ومبدأ الاستخلاف يجعل للإنسان الحق في كسب ماله وتنميته بالطرق المشروعة, وقد حدد رسول الله صلي الله عليه وسلم نظرته إلي المال بهذه الكلمة الموجزة الجامعة: نعم المال الصالح للرجل الصالح, ففي هذا الحديث دلالة علي أن المال الحلال الذي يكسبه صاحبه, وينميه بالطرق المشروعة هو خير ونعمة في يد الصالحين. أما الكسب الخبيث فقد حرمه الإسلام الذي جاء يحل الطيبات ويحرم الخبائث, ومن ثم جاءت نصوص القرآن الكريم لتحرم وسائل كسب المال وتنميته بالطرق غير المشروعة التي تقوم علي الإكراه والرشوة واستغلال النفوذ والسلطان, أو علي غش الناس, أو ابتزاز أموالهم بالباطل, أو التحكم في ضروريات معاشهم, أو انتهاز حالات عوزهم وحاجاتهم, وفي ذلك يقول تعالي ياأيها الذين آمنوا لاتأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم( سورة النساء/ آية29) ويقول ولاتأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلي الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون( سورة البقرة/ آية188), ويقول ويل للمطففين, الذين إذا اكتالوا علي الناس يستوفون/ وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون. ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون. ليوم عظيم سورة المطففين/ الآيات من1 5), ويقول الذين يأكلون الربا لايقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا( سورة البقرة/ آية275) وجاءت نصوص السنة النبوية المطهرة شارحة ومفصلة لما أكد القرآن الكريم من تحريم وسائل كسب المال وتنميته بالطرق غير المشروعة, ومن الأحاديث النبوية العامة التي تدل علي أن الله تعالي لايقبل إلا الطيب الحلال, وأن كل لحم نبت من حرام فالنار أولي به: 1 مارواه أبوهريرة رضي الله عنه أن رسول صلي الله عليه وسلم قال: أيها الناس, إن الله طيب لايقبل إلا الطيب, وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين, فقال: ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم( سورة المؤمنون/ آية51), وقال: ياأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات مارزقناكم( سورة البقرة/ آية172), ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلي السماء, ويقول: يارب يارب, ومطعمه حرام, ومشربه حرام, وملبسه حرام, وغذي بالحرام, فأني يستجاب له؟! 2 مارواه كعب بن عجزة رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: لايربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولي به. وبينت السنة النبوية أن الحرام حرام في نظر الإسلام, ولو حكم القاضي بحله حسب الظاهر له من البينات, يشهد لذلك ماروته أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: إنكم تختصمون إلي, ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض, فأقضي له علي نحو ماأسمع, فمن قطعت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه, فإنما أقطع له به قطعة من النار. وبهذا أقامت السنة النبوية من ضمير المسلم وتقواه حارسا علي حياته الاقتصادية. وقد حققت النصوص القرآنية والنبوية بتحريمها موارد الكسب الخبيث عدة أهداف اجتماعية واقتصادية. أولها: إقامة العلائق بين الناس علي أساس من العدالة والأخوة ورعاية الحرمات, وإعطاء كل ذي حق حقه ثانيها: القضاء علي أهم عامل يؤدي إلي توسيع الفوارق الاقتصادية بين الأفراد والطبقات, فإن الأرباح الفاحشة والمكاسب الضخمة غالبا تأتي من ارتكاب الطرق المحظورة في الكسب, بخلاف التزام الطرق المشروعة, فإنها قلما ينتج عنها إلا الربح المعتدل والكسب المعقول. ثالثها: دفع الناس إلي العمل والكدح, حيث لايجوز أكل المال بالباطل: أي بغير مقابل من جهد ولا عوض ولامشاركة في الغنم والغرم, وفي هذا نفع اقتصادي لاشك فيه. وفي الإجابة علي السؤال الذي أثرناه في مقدمة هذا المقال, وهو: كيف كافح الإسلام استغلال النفوذ والرشوة؟ نقول إن الإسلام يحرم اكتساب المال عن طريق استغلال السلطة أو النفوذ, ويقضي بمصادرة ماتم اكتسابه عن هذا الطريق وتحويله إلي بيت مال المسلمين, وأول من طبق هذا المبدأ هو رسول الله صلي الله عليه وسلم, فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم استعمل رجلا من الأزد يقال له ابن اللتبية علي جمع الصدقات, فلما قدم قال: هذا لكم, وهذا أهدي إلي, فقام رسول الله صلي الله عليه وسلم علي المنبر, فحمد الله وأثني عليه, ثم قال: مابال العامل نبعثه فيقول هذا لكم وهذا أهدي إلي؟ أفلا قعد في بيت أبيه أو بيت أمه فينظر هل يهدي إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده لاينال أحد منكم منها شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله علي عنقه, إن كان بعيرا له رغاء, أو بقرة لها خوار, أو شاة تبعر, ثم رفع يديه, حتي رأينا عفرة إبطيه, ثم قال: اللهم هل بلغت.. ثلاثا. ففي هذا الحديث دلالة علي تحريم اكتساب المال عن طريق استغلال النفوذ, وتعليل النبي صلي الله عليه وسلم دليل علي تحريم الهدية التي سببها الولاية, والمعني أن الهدية لم تأته لشخصه ولا لصداقة أو قرابة سابقة بينه وبين من أهدي إليه, بل أتته بسبب المنصب فقط, فلا حق له فيها, وبهذا يتبين أن الرسول عليه السلام أول من طبق علي الولاة وأصحاب النفوذ قانون من أين لك هذا؟ أو الكسب غير المشروع. ومن الأحاديث النبوية التي تبين تحريم هدايا العمال ماأخرجه مسلم في صحيحه بسنده عن عدي بن عميرة الكندي قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم من استعملناه منكم علي عمل, فكتمنا مخيطا فما فوقه, فهو غلول يأتي به يوم القيامة, فقام رجل من الأنصار فقال: يارسول الله اقبل عني عملك, قال: وماذلك؟ قال: سمعتك تقول كذا وكذا, فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: وأنا أقوله الآن, ألا من استعملناه علي عمل فليجيء بقليله وكثيره, فما أعطي منه أخذ, ومانهي عنه انتهي كما أن رسول الله صلي الله عليه وسلم لعن الراشي والمرتشي فيما رواه عنه أبوهريرة وابن عمر وغيرهما, وقد استدل الفقهاء بهذه الأحاديث علي أنه لايجوز لمن يلي أمرا أن يرتشي, أو أن يقبل الهدية إذا لم تكن الهدية إلا بسبب منصبه, وذكروا أن كل مااستفاده من يلي أمرا من الأمور سوي أجره الذي يتقاضاه عن عمله فللسلطة أخذه منه لأن ماأخذه بسبب ولايته حرام.