كنت مجرد خطوة وسط مجموعة من الخطوات.. فزحمة الناس أمام مسجد الست الطاهرة لا تجعلك أكثر من خطوة جاءت إلي المكان. فللميدان قانون يعترف بتدافع البشر. و بأشعة الشمس الحارقة التي تؤكد وجودها بقوة وكأننا في عز الصيف, يبدو أن هذا المنطق يعرفه كل مريدي أم العواجز و خاصة مجموعة من الفلاحين تكدسوا في صبر غريب حول الباب الحديدي لزيارة ضريح السيدة. وهم يعرفون وكما حكي لهم الأقارب وأقارب الأقارب أن هذا الباب ليس نهاية المطاف فمن يستطيع إقتحامه يري الحياة أمامه رحبة واسعة إذا ما وصل إلي الساحة التي تسبق المدخل. أما من يصل إلي باب الضريح فسيكون قد نجح بحمد الله ليس فقط في اقتحام كومة البشر سالما, ولكن أيضا في الافلات من تطاول الشحاذين الذين اصطفوا وكأنهم جيش شعبي مدرب علي الهجوم وفي اليد أدعية ومصاحف صغيرة وأعواد من البخور. فمن النظرة الأولي يتضح و بلا شك أنهم ينتمون إلي الحرس القديم الذي يعتبر الشحاذة مهنة وأخلاق, ولهذا فهم يرفضون تلك المبادئ التي وضعها جيل جديد ظهر بينهم في السنوات الأخيرة يتطاول علي المهنة بايقاف الرائح والغادي بطلب صريح لحسنة قليلة تمنع بلاوي كثيرة. وإن كانت مجموعة منهم تقف وسط الميدان وهي تصيح وبثبات.. روحوا ربنا يكرمكم ويطعمكم حتي يوم ما بتبخلوا علينا. وعند الضريح بدا المشهد مختلفا و ورعا وسط هذه الاضاءات الخضراء التي تنقلك إلي عالم من التوحد مع الدعاء والذي يزيد من تأثيره بكاء ونهنهات نساء يذكرنني ببطلات يحيي حقي اللاتي ضاقت بهن الأيام فلم يجدن ملجأ الا في التضرع لله تعالي في رحاب مسجد الست الطاهرة. وهكذا قد يطول الوقت بهذا المشهد الذي كان يمكن أن يستمر دون أدني تغيير لأخر النهار لولا كلمات لخادم المسجد تدعونا للخروج.. يالا يا أحباب صلوا علي حضرة النبي...بسرعة قبل الآذان وأوعوا لحقائبكم. وبالطبع ليس هذا هو نهاية المطاف فبعدها خرجت هذه الجماهير الغفيرة لتنتقل من تلقاء نفسها إلي باب أخر مجاور لدخول المسجد. ورغم أن الساعة أعلنت الحادية عشر لم يكن الحضور كثيفا سوي من نساء بعضهن تربطهن صلة قرابة, وقد حاولت قطة صغيرة وبعينها الخبيرة الاندساس وسطهن علها تجد معهن ما يسد رمقها, وخاصة ان أطفال كانوا في صحبتهن, ووجودهم إشارة واضحة علي اكتظاظ الحقائب بأصناف الطعام. الا ان هذه القطة العارفة تصاب بصدمة وتستدير بسرعة متراجعة بعدما أعلنت كبري النساء عن استعدادها لضربها دفاعاعن طعام الصغار, لهذا قبلت القطة علي مضض التراجع المخزي فقد تمنت القليل فلم تحصل حتي عليه. حسنا...خيرها في غيرها وخاصة وأن محال الفول والطعمية وعيادات الأطباء المشهورين وباعة البطاطا والبلاستيك والادوات المنزلية والخضر والفاكهة يتزاحمون في المكان وأنهم لابد وأن يكونوا من أهل الطعام الشعبي وساندوتشات الميدان التي تعينهم علي إحتمال يوم طويل بين البيع والشراء. فمثلهم مثل إبراهيم أبي خليل في أم العواجز والوصف ليحيي حقي-وأعتقادي أنه من أولاد البلد, واستفتح شقاءه بالخدمة في المنازل ثم إذا به بائع ترمس علي عربة يد صفت عليها قلل قناوية, ربيب حلوتها بالورود والريحان. وقد سمعت أنه فتح بعد ذلك دكانا صغيرا للعطارة, ثم أرتد بائعا متجولا كل بضاعته دبابيس وأبر مواقد الغاز, ومشابك الغسيل يقفز بها من ترام إلي ترام. وفي حياته فترات متقطعة لم يصلنا خبر عنها وأغلب ظني أنه ذاق التشرد أحيانا بلسعة الأسفلت في قرة الميدان. وكان قبل أن أعرفه بقليل يحتل في الميدان ركن الرصيف المثلث المواجه لدكان التركي بائع الحلاوة الطحينية ويجلس وأمامه مشنة وفيها فجل وجرجير وكرات لا ينطق وجهه بما يدل علي هذه العهود وهذه المهن التي ظلت تركله واحدة بعد أخري. فهؤلاء الناس يتقبلون الحياة كما هي, لكل نهار قسمته,وكل يوم ينقضي يموت مثلهم بلا تركة. وفي حارة الميضة مسقط رأس كاتبنا.. نفس الوجوه تجدها في إنتظارك وكأن الزمن لا يتغير. أما تاريخ المكان فلا يتوقف عنده الأكبر سنا وهو بالمناسبة رجل لايتجاوز الخمسين وقد أكد لي أن الحارة كانت ضمن مسجد السيدة, وفي زمن ما قبل توسعات الرئيس عبد الناصر خرجت هذه الحارة من زمام المسجد بعد أن مست التجديدات شارع السد المجاور. ولكن أين أختفي جيل الشيوخ لاأحد يعلم.. بحثت عنهم في شارع السيوفية المجاور وهو بالمناسبة شارع طويل متعرج لابد من الدخول من الحلمية الجديدة للوصول إليه. فعلي الناصية كانت تكية الدروايش تحتل مكانا متواضعا. وتكية الدروايش كانت في زمن يحيي حقي هي السمع خانة أي بيت الموسيقي الوحيد في بر المحروسة, فقد استمع للموسيقي في طفولته وكتب في شبابه تعال معي إلي الكونسير و أكتشف وهو يكتب أن التكية داخله وأن سيد درويش أعلي صوتا من أي تأثير أجنبي.. فكما يقول..كانت خلقة سيد درويش البدنية وظواهر أحواله توحي بأنه جبل والناس تلال, بحر والناس جداول. فهو رجل لم أر أحدا مثله في عرض كتفيه واتساع صدره حتي ليخيل إليك أنه مرسوم بالعرض وأن ساقيه أقصر من اللازم. وقد يخيل إليك أنه اشتغل طوال عمره شيالا في محطة مصر من لحنه شد الحزام علي وسطك وسقاء من لحنه يعوض الله, أو سايسا يجري أمام عربة الباشوات من لحنه أوعي يمينك أوعي شمالك وأنه مولود بالسودان من لحنه شجر دام بمعني مفيش فلوس. أو تاجر سجاد كاشاني من لحنه إحنا يا فندم تجار العجم... هكذا كان يحيي حقي قلم واحد يكتب كونسيرا مصريا كبيرا يبدأ من حي السيدة وينتهي بألحان سيد درويش في الحارة المصرية.