يفيض خطابنا السياسي هذه الأيام بمصطلح التوافق, وبلغ بنا الإسراف في استخدام المصطلح دون الوقوف علي دلالته الدقيقة أن أصبح بعضنا يري في القبول به خيانة للمبادئ, كما أصبح يعني لدي البعض الموافقة; أي أن توافقني علي ما أري, في حين يراه البعض في صورة حسابية باعتباره نقطة في الوسط بالضبط يتفق عليها الجميع, كما أسرف البعض في الدعوة للتوافق وضرورته إلي حد اعتباره فضيلة أخلاقية. التوافق يعني من الناحية العلمية أن يتنازل كل طرف عن جزء مما يعتقد أنه حقه القانوني أو التاريخي أو العقائدي أو الوطني أو المالي في سبيل تحقيق ما يراه مكسبا نسبيا ممكنا أو تجنبا لخسارة مؤكدة. والتوافق بهذا المعني المحدد سواء اتخذ شكل التفاوض أو المساومة أو المصالحة أو إبرام المعاهدات إلي آخر تلك الوسائل و الأشكال لا يخضع بحال للنوازع الأخلاقية وحدها; بل يتوقف علي الحسابات الواقعية للقوي المتصارعة علي الأرض, والتسليم باستحالة حصول طرف علي كل ما يريد وهزيمة الطرف الآخر هزيمة ساحقة أو القضاء عليه قضاء مبرما. لم يعرف التاريخ توافقا اختياريا تم بين جماعات متصارعة قبل استنفاد جولات من الصراع الواقعي عبر صناديق الانتخابات, أو عبر قتال فعلي ربما تسيل فيه الدماء وتهدر الأموال; ويتوقف حجم تلك التكلفة علي قدرة أطراف الصراع علي سرعة الحساب الموضوعي لموازين القوي قبل الانغماس في مزيد من الاستمرار في تصارع تلك القوي ميدانيا. ولعل النموذج المثالي الذي يجسد ذلك هو حرب الثلاثين عاما التي مزقت أوروبا بين عامي1618 و1648 التي كانت في بدايتها صراعا دينيا بين الكاثوليك والبروتستانت سرعان ما اتخذ أبعادا سياسية, وتم خلال تلك الحروب تدمير مناطق بأكملها, وانتشار المجاعات والأمراض وهلاك الملايين من السكان حيث أدت الحرب إلي انخفاض سكان ألمانيا علي سبيل المثال من عشرين مليونا إلي ثلاثة عشر ونصف المليون. و أخيرا انتهت الحرب بمعاهدة مونستر وهي جزء من صلح وستفاليا الأوسع عام.1648 ليس منطقيا و لا متوقعا أن يقدم طرف من أطراف الصراع طواعية للتنازل عن جزء مما يراه حقا له بصرف النظر عن مشروعية أو قانونية اكتسابه لذلك الحق. إن إبرام الاتفاقيات العربية مع إسرائيل علي سبيل المثال بدءا من اتفاق هدنة1948 إلي اتفاقية إيقاف الأعمال العدائية مع حماس هذا العام عبورا بمعاهدات كامب ديفيد وأوسلو إلي آخره لم يتم إنجازها إعلاء لفضيلة السلام أو تفضلا من طرف علي آخر ولكن نتيجة حسابات واقعية أفضت إلي إدراك كل طرف استحالة هزيمة الطرف الآخر هزيمة ساحقة في الوقت الراهن علي الأقل. والأمر بالمثل فيما يتعلق بمفهوم التحالفات و هو مفهوم وثيق الصلة بمفهوم التوافق. التحالفات أيضا لا تتم اختيارا بل تكون اضطرارا وهي أيضا لا تنعقد بين من تتطابق رؤاهم أو أهدافهم, بل علي العكس من ذلك تماما. وتعد الحرب العالمية الثانية نموذجا يجسد ذلك إذ شهدت تحالفا بين دول عريقة في رأسماليتها و بين الاتحاد السوفيتي قلب الاشتراكية ورأسها آنذاك, ولم يكن ذلك التحالف يعني بحال تخلي أي من أطرافه عن توجهاته الفكرية أو الاقتصادية. لقد أقامت أطراف التحالف تحالفها علي قاعدة القبول بالتعاون مع العدو الأقل عداء في مواجهة الأكثر عداء وشراسة. ولم يرفض الاتحاد السوفيتي أن يكون طرفا في صراع يدور بين دول يجمع بينها المنهج الرأسمالي باعتبار الرأسمالية كيانا واحدا, مفضلا أن يحتفظ بنقائه الثوري بعيدا عن أدران الرأسمالية; كما أن أيا من دول الحلفاء لم تجد حرجا في التحالف مع دولة تكاد تقدس البيان الشيوعي الذي يبشر بإنهاء النظام الرأسمالي من أساسه. لقد تحالف الجميع في مواجهة خطر الفاشية التي تعتمد علي عنصرية تذهب إلي حد تكفير الآخر وإبادته. وقد تم إبرام ذلك التحالف عبر جولات ممتدة من المفاوضات والشد والجذب. لقد عرضنا لأمثلة من تلك الصراعات الدولية لأنها الأكثر وضوحا, ولكن الآليات التي حكمتها هي بذاتها التي تحكم عمليات التحالف و التوافق بين الأحزاب والقوي السياسية الداخلية المتصارعة في بلادنا وغيرها. والسؤال هو: تري هل قامت القوي السياسية في بلادنا بإجراء حساباتها وفقا لهذا الأساس العلمي؟ هل تساءل كل فصيل من فصائل أنصار الدولة المدنية أي الفصائل أقرب إليهم و لو نسبيا من التيارات السياسية الأخري بما فيها تيارات الإسلام السياسي؟ ومن ناحية أخري هل طرحت جماعة الإخوان المسلمين علي نفسها نفس التساؤل لتتبين هل هي أقرب إلي تيارات الدولة المدنية أم تيارات الدولة الدينية؟ و هل وضعت الأطراف جميعا في اعتبارها أن التحالفات لا تتم اختيارا كما أنها لا تتم فورا بل إن إبرام مثل تلك التحالفات يعتبر في حد ذاته معركة في حد ذاتها؟ وهل استوعبت الأطراف جميعا أن نتائج التصويت في الاستفتاء الأخير تقطع باستحالة حصول تيار واحد بأغلبية ساحقة تسمح له باستبعاد الآخر أو تخوينه أو مقاطعته أو رفض الحوار معه؟ وأخيرا هل استوعبنا جميعا حقيقة أن شعار فلنتحالف جميعا دون أن نستبعد أحدا يعد لغوا لا معني له؟. المزيد من مقالات د. قدري حفني