الصدفة ليست صدفة هكذا يقول المثل الألماني وبمعني أن توافق بعض الاحداث في نفس الوقت قد يكون خاضعا للمبادئ والأسس العلمية في العلة والتحليل العلمي. تري والأمر كذلك فهل هي محض صدفة أن تتوافق هزيمة سلفير بيرلسكوني رئيس وزراء ايطاليا وفارس الرأسمالية الفجة والصديق الصدوق للرئيس الأمريكي جورج بوش مع القبض علي الأب الروحي للمافيا الايطالية وجذورها الممتدة في أوروبا والولاياتالمتحدة. وكان بيرلسكوني فارس الرأسمالية الايطالية مثلما تطلق عليه قنوات التليفزيون الثلاثي التي يمتلكها قد اختفي لفترة في منتجعه الخاص في جزيرة سردبينا تعرض فيها لرجيم قاس أنقص وزنه حوالي 7 كيلو جرامات بحيث يستطيع ان يرتدي الملابس التي كان يرتديها منذ عشر سنوات أي منذ برز فجأة علي السطح السياسي الايطالي والأوروبي. والذي لا شك فيه انه رغم كل هذه الاستعدادات البرلسكونية الا ان الرجل واجه ازمة حقيقية بعد ان هزمه اليسار بزعامة البروفسور رومانو برودي استاذ الجامعة وصاحب الجماهيرية الواسعة بين فئات العمال والمثقفين والمهنيين. وبيرلسكوني الذي لمع نجمه فجأة في سماء السياسة الايطالية في منتصف السبعينيات يعد الآن واحدا من أكبر رموز الرأسمالية والمحافظين الجدد في ايطاليا وفي العالم كله ويعتبر واحدا من أغني خمسة بارونات في ايطاليا وهو يقدم نموذجا مجسدا للقيادات التي تفرزها مرحلة الانتقال التي تجري في عالم اليوم وبروز الرأسمالية المتوحشة بعد انهيار المعسكر الآخر وتفرد الولاياتالمتحدة كقوة منفردة علي سطح العالم سياسيا واقتصاديا وعسكريا. وكانت المحكمة الدستورية العليا قد اصدرت في العام الماضي في ظل حكومة بيرلسكوني حكما تاريخيا بعدم اعفاء رئيس الوزراء من المساءلة القانونية اثناء توليه الحكم وقد الغي حكم المحكمة الدستورية قرارا كان قد اتخذه البرلمان الايطالي الذي كان يتمتع فيه بيرلسكوني وتحالفه بأغلبية واضحة باضفاء الحصانة عن المساءلات القانونية لخمسة من كبار رجال الدولة بصفتهم اثناء توليهم مناصبهم هم رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الشيوخ. وقالت المحكمة الدستورية في حيثيات حكمها التاريخي ان استثناء رئيس الوزراء وخمسة آخرين من كبار المسئولين في الدولة الحاكمة يمثل خللا خطيرا في المبدأ الدستوري الايطالي الذي ينص علي أن الجميع سواء أمام القانون. وأعاد هذا الحكم فتح الملفات من جديد ومواجهة رئيس الوزراء علي التهم الموجهة إليه بالفساد والرشوة والتهرب الضريبي ثم الأخطر من ذلك كله العلاقات مع المافيا وذلك بعد فضيحة شركة مارملات التي تعد واحدة من كبري الشركات الايطالية بل والعالمية العاملة في مجال صناعة الغذاء حيث يرتبط رئيس مجلس ادارتها المسجون حاليا بعلاقة وثيقة مع رئيس الوزراء المهزوم.. وبيرلسكوني الذي يعتز ويفخر بأنه ضرب رقما قياسيا في طول فترة وزارته الاخيرة اكثر من اربع سنوات مع أن متوسط عمر الوزارات الايطالية منذ الحرب العالمية الثانية لا يزيد علي عام وبضعة شهور. لقد كان صعود برلسكوني وبروزه في سماء الحياة السياسية الايطالية ظاهرة اعتبرت في حد ذاتها نموذجا لما يمكن ان تسفر عنه مرحلة الرأسمالية الفجة والمتوحشة التي أعقبت انهيار الثنائية القطبية وتفكك المعسكر الاشتراكي في شرق اوروبا وسيادة المفاهيم الخاصة بالاسواق المفتوحة بلا قيود والمنافسة الشرسة علي كسب الاسواق بلا حدود. ويعتبر برلسكوني نموذجا لرجل الأعمال الناجح في ظل سيادة القوانين الرأسمالية المتوحشة وكانت كل مؤهلاته لدخول الحلبة السياسية في ايطاليا هو ملكيته لثلاث قنوات تليفزيونية وصحيفتين وناد رياضي كبير هو اي. سي. ميلان A.C.Melan. وشكل بيرلسكوني حزبا في أواسط التسعينيات أسماه فورسيا ايطاليا اي إلي الأمام ايطاليا وهو نفس النداء الذي يردده المشجعون لنادي ميلانو اثناء مباريات كرة القدم واستطاع ان يخطف الاضواء مستغلا فرصة الصراعات المحتدمة بين الاحزاب الايطالية الكبيرة واجري تحالفات غير ميدانية مع حزب رابطة الشمال الانفصالي وحزب الفاشين الجدد. ولكن النصر السريع تحول الي هزيمة سريعة بعد ان فشل في تحقيق الكثير من الوعود ثم والأهم من ذلك بعد أن دب الشقاق والخلاف بين الاحزاب والقوي المتحالفة معه خاصة حزب رابطة الشمال وزعيمه اميرثروس الذي كان ومازال يسعي الي استقلال سهل لومبارديا الغني في الشمال الايطالي. ولكن الظروف والملابسات التي ادت الي هزيمته في منتصف التسعينيات سرعان ما تغيرت بعد ان استولي علي البيت الابيض في واشنطن مجموعة المحافظين الجدد وبزعامة الرئيس الامريكي جورج بوش ونزعاتهم العدوانية في السيطرة والهيمنة الأمر الذي وفر لبيرلسكوني حليفا عالميا قادرا وقويا. وطوال السنوات الأربع الماضية التي تولي فيها بيرلسكوني رئاسة الوزارة الايطالية من جديد كان هو بحق رجل امريكا الأول في اوروبا حيث لم يترك اي فرصة الا وأعلن فيها مساندته للولايات المتحدة سواء امام غزو العراق واشتراك ايطاليا فيما سمي بقوات التحالف او حتي في القضايا والمشكلات المتعلقة بين دول الاتحاد الاوروبي وامريكا حتي ان الرئيس الفرنسي جاك شيراك قال له يوما اثناء انقضاء القمة الاوروبية .. سيادة الأب المبجل تري هل أنت أوروبي أم أمريكي أم كوزمبوليتاني. وفي اعقاب غزو العراق وحين قسم رونالد رامسفليد وزير الدفاع الأمريكي أوروبا الي ما اسماه اوروبا القديمة واوروبا الحديثة حرص علي أن يوضح ان ايطاليا بزعامة بيرلسكوني التي تعتبر اقدم دولة اوروبية تقف مع الولاياتالمتحدة في جبهة اوروبا الحديثة. وهناك ما يؤكد ان الولاياتالمتحدة لعبت دورا مهما في الانتخابات الايطالية الاخيرة في محاولة مساندة ودعم سلفيو برلسكوني في مواجهة تحالف اليسار خاصة اليسار الشيوعي والاشتراكي الذي كان ومازال يعارض الغزو الامريكي للعراق وسياسيات الهيمنة والسيطرة. ان سقوط سلفيو بيرلسكوني المتعاطف والمنسجم مع سياسات جورج بوش لا يعني فقط اختفاء فارس الرأسمالية الفجة في ايطاليا بل انه يمثل خسارة كبيرة للولايات المتحدة التي فقدت واحدا من رجالها المخلصين.. والبقية تأتي.