كان لصديقي الكاتب الليبي عبد الله القويري, جولة يومية مسائية, لابد ان يقوم بها كل يوم في مركز المدينةبطرابلس, خارجا من بيته في شارع النصر, مجتازا ميدان جنة العريف, منحدرا عبر شارع الاستقلال الي ميدان الجزائر حيث مبني ابريد الرئيسي, فينظر في صندوق بريده, ويقرأ مايصله من رسائل, ويجلس للرد عليها في الصالة التي تحتوي بعض المناضد والدكك الخشبية, مستعدا دائما بالورق الذي يكتب فيه رسائله أو بالكتاب أو المجلة السميكة التي يستخدمها مسندا, ثم يغادر مبني البريد, هابطا مع السلالم الرخامية التي ترفع بوابة المبني عن مستوي الشارع بضعة أمتار, متجها الي مقهي أورارا الذي تحول من خانة تبيع البيرة الدرافت, وصار مقهي خاليا من المشروبات الكحولية يحمل الترجمة العربية لاسمه الايطالي وهي الفجر, فيقف بجوار صديقه ابراهيم صاحب المقهي, الذي كان نديمه أيام البيرة, حيث كان عبد الله يتخذ مجلسه تحت أقواسها, قريبا من النافورة في البهو الخارجي, يعب من الدنان الكبيرة التي تقدم فيها البيرة, مستمتعا بعناية صاحب المقهي الذي يشاركه الشراب, ويأمر عماله باحضار أنواع من الميزة لاتقدم الا لهذه الجلسة, الآن الأن فلم يعد متيسرا لهما غير شرب القهوة, حيث يشرب قهوته رفقة نديمه القديم, ويعود من ذات الطريق الي بيته, مشوارا ونزهة لايأخذان منه غالبا أكثر من نصف ساعة في متوسط الحال, ولايزيدان في الأوقات التي تتزاحم فيها الرسائل عن ساعة واحدة ويعود بعدها عبد الله القويري الي بيته لكي يستأنف رحلته مع القراءة والكتابة, لم أكن غريبا عن مجلسه العامر بالأصدقاء والمناقشات أيام أن كانت الأورارا أفخر حانات طرابلس, الا انني لم أكن نديما دائما وربما صرت الأن بعد أن انفض مجلس الندماء بانتهاء عهد السائل السحري الذي يجمعهم, أكثر قربا من عبد الله القويري, ولقاءاتي به أكثر تواترا, فأتعمد ان اتجه الي لقائه في هذا الوقت المخصص لجولته المسائية بين الساعة السابعة والثامنة, عارفا انني ساجدة في المقهي لأشرب قهوتي معه, حيث يتخذ مجلسه قريبا من الآلة الحاسبة التي يجلس اليها صاحب المقهي منشغلا أحيانا بزبائنه, يشاركنا الحديث احيانا وينصرف في أغلب الأحيان لمحاسبة الزبائن واستلام الحساب من عمال المقهي. توفي عبد الله القويري عام1992 في طرابلس وأنا خارج البلاد فلم أحضر تشييع جنازته, ولكنني كتبت لأكثر من صحيفة مقالات رثاء عنه, وشجعت صديقه الناقد المصري محمد أحمد عطية, في جمع الرسائل الكثيرة التي ارسلها اليه, واعدادها في كتاب مع دراسة عنه, وقمت بنشر الكتاب مع مقدمة عن حياة عبد الله القويري وآدابه. ماحدث هو انني بعد أعوام من رحيله, وأثناء وجودي في طرابس, وفي ذلك المثلث الذي طالما رأيته يقطعه بين ميدان الجزائر وجزيرته العامرة بالأشجار والأعشاب ومبني البريد وسلالمه الرخامية ذات المهابة والجلال ومقهي الفجر بأعمدته وأقواسه العالية ونافورته ذات الزخارف التي جف منها الماء, صرت أري عبد الله القويري الذي أعرفه, ولايمكن ان اخطئ في التعرف عليه مهما كان بعيدا ببذلته الرصاصية التي يظن من يراه أنه لايملك غيرها, بينما هو يملك بذلا كثيرة لها نفس اللون, بجسمه الجسيم ووجهه الأبيض المشرب بحمرة ونظارته الطبية السميكة, وشعر رأسه الخفيف الذي صار أكثر خفة عند مقدمة الرأس حتي ليكاد يتحول الي صلعة, أعرف علي وجه اليقين, أن عبد الله لم يعد معنا في هذا العالم, وأن حفل التأبين الذي اقيم بعد سنة من رحيله وشاركت فيه بالقاء شهادة عن علاقتي به, لم يكن حفل تأبين للاحتفاء بذكري رجل آخر وانما حفل تأبين له, ومع ذلك فانه لايمكن لعقلي ان يخطئ في ان هذا الرجل الذي اراه صاعدا سلالم مبني البريد, داخلا بجسمه العريض عبر البوابة أو خارجا منها هابطا الي الشارع, ليس الا عبد الله القويري, واركض لاحقا به, ادخل البريد اذا رأيته داخلا, أو انطلق خلفه وهو يغادر البريد ليدلف الي المقهي, وكان دائما يختفي ويتلاشي فلا أجد احدا خلف الباب الذي دخل اليه تكرر معي الأمر, مرات كثيرة ربما عشرات المرات لانني كنت اترصده في هذا الوقت بالذات, موعد الجولة اليومية المسائية لعبد الله القويري في حياته فأجد انه مازال يقوم بذات الجولة بعد غيابه, ولم يراودني ادني شك في اية مرة من هذه المرات التي رأيته فيها ولاحقت طيفه حتي اختفي مني خلف الباب, ان الذي اراه انسانا آخر يشبهه, لأنه لم يكن يشبهه كان هو عبد الله القويري ولا أحد سواه, لا انني لم أعد اذهب مهرولا وراءه عندما اراه فقد صرت علي يقين أنه روح لاسبيل الي الأمساك به والقبض عليه انها روح عبد الله القويري التي تعلقت بهذه الأماكن وتألفت معها, ووجدت بما لديها من شفافية الرجال الصالحين, ونقاء ملائكة الله, ان تمنحه السماء رخصة لاتمنح الا لأهل البركة ممن أحبهم الله وحباهم بكريم عطاياه, لكي يعود لممارسة طقسه اليومي الذي تعود عليه في دنياه لقد أحب عبد الله القويري وطنه ليبيا, وأحب العالم الأرضي, ورأي ان العيد في الأرض قبل ان يكون في السماء, كما جاء في مجموعته القصصية الشهيرة( العيد في الأرض) فأثر رغم أعياد السماء ان يتنعم قليلا بهذه اللحظات الأرضية, حتي لو كانت خصما من حياة النعيم السماوي. وتأكدت من هذا الظن, الذي تحول الي يقين من وجود عبد الله القويري يدرج بيننا في عوالمه المحببة رغم رحيل الي عالم السماء وتأكدت من صدق رؤيتي لطيف المرحوم أثناء زياراته اليومية لمقهي الفجر الذي أحبه وقضي أجمل أيام شبابه تحت أقواسه, عندما علمت من أصحاب لهم صلة بأهل بيته, ممن كانوا يشاركونه حياته اليومية, أنه أصبح مألوفا لديهم, الاحساس بحضور عبد الله القويري معهم في البيت, ورؤية طيفة يتجول عبر الأركان التي كانت محببة الي نفسه داخل البيت, فتوقفت بعد هذا اليقين عن ملاحقة طيفه أو محاولة الالتقاء به حتي وأنا اراه جالسا في صالة البريد يحرر رسالة, بل رأيته من بعيد ذات مرة يتبادل حديثا هامسا مع رجل كبير في السن يرتدي بيريه كالذي كان يرتديه الأديب الكبير توفيق الحكيم في حياته, وعندما اقتربت منهما اختفي الاثنان كأنهما مصنوعان من موجات الضوء والهواء وتأكدت حقا ان الأرواح التي تحب بعضها بعضا تلتقي في دار الخلود حتي وأن لم يتحقق بينها هذا اللقاء في دار الفناء, فقد كان توفيق الحكيم هو الكاتب الأثير لعبد الله القويري وهو مثله الأعلي الذي يقتدي بسيرته ويقتفي أثره في أسلوبه وفنه المسرحي, رغم أنه لم يحدث أي لقاء أو اتصال بينه وبين توفيق الحكيم في حياته, وهاهما سبحان الله يلتقيان ويتبادلان الحديث الذي يبدو حمميا جدا بل هاهو يأتي بمثله الأعلي في الكتابة من حيث يقطن في عليين الي الأماكن التي يحبها ويحب ان يقوم بزيارة يومية لها ولايتردد الحكيم في تلبية دعوة صديقه لاقتطاع وقت ثمين من زمن الجنة يقضيه مع تلميذه في جزء اليف من عالمه الأرضي.