انتهت المشاحنات حول استفتاء الدستور الجديد, وبتعبير المعارك وضعت الحرب أوزارها. إن كان ذلك صحيحا لعملية الاستفتاء ذاتها فإنه من غير المنتظر أن تهدأ الساحة السياسية لأن هناك أصنافا أربعة أفرزتها المرحلة الانتقالية حتي الآن, تلك الأصناف هي المتعجلون والخائفون والمترددون والناقمون. والمتعجلون هم معظم أفراد التيار الإسلامي الذين يريدون أن تطوي لهم المراحل طيا ليجدوا مؤسسات الدولة جميعها قد استكملت, وأن خطط التنمية قد بدأت, وأن الإحساس بالرضا عند الشعب قد استقر. وهذه أهداف لاتتحقق بالأمنيات بل تحتاج إلي عمل متواصل وجهد مستمر قد يستغرق سنوات عديدة, وهذا الصنف- أعني المتعجلين- قد يعتبرون المعارضين لهم عقبة كئود في طريقهم ويستسهلون اتهامهم والتهكم عليهم, وليس هذا منهجا علميا سليما. وفريق الخائفين يشمل قطاعات مهمة من المجتمع مثل رجال المال ومجموعة من أهل النخبة الذين يعملون في الفنون والآداب, وهؤلاء إما خائفون بمعطيات حقيقية أو قد تأثروا بكثرة الحملات الدعائية ضد التيار الإسلامي, والخائف دائما يريد أن يطمئن, ولا توجد جهة تبث الاطمئنان في النفوس إلا من بأيديهم أمور البلاد الذين إن فعلوا ذلك كسبوا لتيارهم وللوطن كله تأييد طائفة مهمة من رجال المال والأعمال وكذلك من أهل الفنون والآداب. والمترددون- ويبدو أنهم هم الأغلبية من أبناء الوطن- هم الذين يسمعون كلاما من هنا وهناك يصدقونه أحيانا ويرتابون فيه أحيانا أخري, فلا هم من المؤيدين ولا هم من أهل المعارضة ولا يميلون إلي هؤلاء أو أولئك, وتوجد أدلة علي أنهم هم الأغلبية, من ذلك نسبة المشاركة في الانتخابات والاستفتاءات المتتالية التي تراوحت نسبة المشاركين فيها من30% إلي50% أما الباقون الذين لم يشاركوا فينتمون غالبا إلي معسكر المترددين. أما فريق الناقمين فيضم أشتاتا لا يجمعهم إلا الرفض, فمنهم من رفض ثورة25 يناير وينتمون بلا شك إلي النظام القديم وفيهم من أهل السياسة رموز كثيرة ومن أهل المال والتجارة أعداد غفيرة. ومن الناقمين أيضا نوع شارك في الثورة مشاركة فعالة لكنه خسر معظم- إن لم يكن كل- المعارك السياسية التي جرت بعدها ابتداء من استفتاء شهر مارس2011 مرورا بانتخابات مجلسي الشعب والشوري ثم الانتخابات الرئاسية وأخيرا الاستفتاء علي الدستور الجديد. وأمر هؤلاء عجيب حقا لأن هؤلاء نادوا بالديمقراطية ثم هم يرفضون نتائجها تباعا, بل ويثيرون ضجة إعلامية كبري تزيد الخائفين خوفا وتزيد المترددين عددا. ومن الحكمة والإنصاف أن ندرك وجود هذه الأصناف الأربعة, لكنهم يشتركون في كونهم مصريين وهذا هو القاسم المشترك الأعظم بينهم جميعا, فأين أهل الحكمة والإنصاف ليقدموا للوطن مبادرات تجمع ولا تفرق وتختصر المسافات إلي المستقبل المنشود, ولا بد أن تكون هذه المناظرات قابلة للتطبيق, فليس يكفي أن يحلق صاحب المبادرة في دنيا الخيال لأنه إن فعل ذلك فقد يقترح أفكارا نظرية لا تستطيع أن تقف علي قدمين في دنيا الواقع والتطبيق فضلا عن أن تسير خطوات وخطوات علي طريق هو بطبيعته شديد الوعورة. وقد يسمح لي القارئ الكريم أن أقدم بعض الأفكار عساها أن تكون أقرب إلي الواقع منها إلي الخيال. تبدأ هذه الأفكار بمجموعة من أهل الفكر والقانون من أمثال الأستاذ الدكتور أحمد كمال أبوالمجد والأستاذ الدكتور محمد سليم العوا والسيد المستشار طارق البشري والأستاذ الدكتور عبدالعزيز حجازي رئيس الوزراء الأسبق في عهد الرئيس الراحل أنور السادات ليضع هؤلاء مسودة لأهداف المرحلة المقبلة وآلية تنفيذها ثم يتقدموا بهذه الخلاصة إلي رئاسة الجمهورية لتدعو هي بدورها إلي جلسات حوار وطني متتالية تضم إلي جوار مؤسسة الرئاسة رؤساء الأحزاب الكبري والشخصيات الحزبية المؤثرة وممثلين عن المجلس الأعلي للقضاء ومجموعة من شباب الثورة بالإضافة إلي بعض الخبراء في دنيا السياسة وعالم الاقتصاد. وجود الرئاسة أمر طبيعي فهي الجهة الداعية إلي الحوار الوطني, وبين يديها ستكون المقترحات الأولية وكذلك آلية التنفيذ. والأحزاب والقوي السياسية الكبري مثل الحرية والعدالة والنور والوفد والدستور والتيار الشعبي, بالإضافة إلي رموز سياسية مؤثرة مثل الدكتور عبدالمنعم أبو الفتوح والمهندس أبوالعلا ماضي والدكتور محمد أبوالغار والدكتور صفوت عبدالغني والدكتور عمرو خالد فهؤلاء جميعا يشكلون مع غيرهم العمود الفقري للحياة السياسية حاليا ولا يمكن بحال استثناء بعضهم أو أحد منهم من الإسهام في رسم خريطة المستقبل السياسي لمصر. ورموز القضاء يعتبرون تاج الوقار لهذا الوطن وقد مستهم عن قصد أو غير قصد أضرار ملموسة يقر بذلك أهل الإنصاف والإدراك, وعلي ذلك فإن إسهامهم في الحوار الوطني يعد اعترافا بقيمتهم واعتذارا عما أصابهم فضلا عن الاستفادة الكبري من آرائهم ورؤيتهم الدستورية والقانونية, وهذا مما لا يستغني عنه في مثل هذا الحوار المهم. واشتراك ممثلين عن شباب الثورة الذين هم الملاك الحصريون للمستقبل يجعل من مشاركتهم إنضاجا لخبرتهم في العمل السياسي الذي حين يضاف إلي جسارتهم في مواجهة الظلم يؤدي إلي كوادر سياسية ووطنية من الطراز الرفيع, وإن أفكارهم المتحررة من قيود الماضي تجعل المتحاورين يستشرفون المستقبل في ضوء معطيات الحاضر. وإذا سلمنا أن أزمتنا في مصر لها وجهان وجه سياسي وآخر اقتصادي فتصبح مشاركة أهل الخبرة الأكاديمية والتطبيقية في مجالي السياسة والاقتصاد أمرا ذا أهمية قصوي لأن الخبرة العلمية جناح يضاف إلي الخبرة الوطنية ومن خلالهما تتضح خطوات المستقبل. إن استجابة هذه المكونات جميعها للحوار الوطني يعد من الناحية الشرعية فريضة ومن الناحية الوطنية تكليفا جماهيريا, واستجابة للفريضة والواجب فإن اعتذار أي مجموعة سوف ينظر له بعيون الريبة والشك, كما أن وضع شروط تعجيزية للمشاركة في الحوار يعتبر هروبا من ميدان التضحية والعمل من أجل الوطن إلي مجال الدعاية والإعلام السياسي. فهل الوطن في حاجة إلي الدعاية والإعلام أم في حاجة إلي التضحية والإقدام؟!. المزيد من مقالات د.حلمى الجزار