من المعروف أن أخبار الحوادث في وسائل الإعلام المختلفة إنما تعكس توجهات مجتمعية وسلوكية يعكف عليها المختصون بالرصد و التحليل فضلا عن وصف العلاج الناجع لها أو دق ناقوس الخطر إذا ما بدأت في التنامي و التحول إلي ظاهرة تقتضي تضافر جميع الجهود لمواجهتها. مما لاشك فيه أن وسائل الإعلام ظلت دوما بمثابة الضوء الكاشف للحوادث المجتمعية علي تباينها ترصدها تقريرا تارة أو تتخذ منها موقفا تارة أخري. و لو اجتهدنا في قراءة واقعنا من خلال نمط الحوادث فيه لوجدنا أن جريمة الاعتداء علي الوالدين كانت تحظي بردود أفعال تعكس قيمة الترابط الأسري, حتي إن فكرة الإحتفال بعيد الأم في مصر كانت ردة فعل لشكوي أم من ابنها لرائدي الصحافة المعاصرة( الأخوين أمين). بيد أن هذا النمط من الجرائم صار معتادا- و ليس مقبولا بالطبع- في ضوء تغير نمط الأسرة من الممتدة إلي المحدودة فضلا عن تواكب البناء القيمي مع المستحدثات الاجتماعية وانعكاسها علي البنية الأسرية. والأمر ذاته ينسحب علي حوادث الثأر علي بشاعتها أو النشل علي بساطتها فضلا عن الاختلاس الذي لم يكن يتعدي بضعة جنيهات من خزينة الصراف أو العبث بأذون الصرف الحكومية. و لو نظرنا لهذه الأخيرة لوجدنا ظاهرة الاقتراض من البنوك دون رد قد مثلت تحولا جديدا في مفهوم النشل من الفردي إلي الجماعي أي بسرقة أمة بدلا من فرد, فضلا عن تناغمه مع المتغيرات السياسية التي فرض فيها مفهوم الكليبتوقراط( حكم الحرامية) نفسه علي الساحة. و هكذا شغلت مساحات بالصحف إما للتشهير بالبعض من هؤلاء عمدا أو الدفاع عنهم بحجة تشجيع الاستثمار وطمأنة رأس المال الجبان و هو في هذه الحالة بالفعل كذلك, فضلا عن دعاوي المصالحة بدلا من العقاب الرادع من منطلق القاعدة الشرعية( ما لا يدرك كله لا يترك كله). في حين توارت جريمة السرقة العلمية من صفحات الحوادث بعدما كانت تهز جنبات المؤسسات الأكاديمية فإذا بالجميع يستتر خلف مباديء حماية الملكية الفكرية أو بالأحري لم تعد الجامعة تلك المؤسسة التي يستميت المجتمع للحفاظ علي مكانتها بعدما تم تغييبها بفعل فاعل و بعدما قصرت المحاسبة الداخلية فيها عن بلوغ الهدف المنشود, بل أفلت من خلالها الكثيرون و لا يزالون من مقصلة العقاب مما أعطي نموذجا غاية في السوء للأجيال التالية وأصبحت نجاحات الجامعات إما وفق جهود فردية من الأغلبية الصامتة أو تتجه نحو إعمال مفاهيم( الفترةالهلالية) لسدنة المولد المستدام حول ضريح( سيدي الجودة). وهكذا أصبحت جرائم التعديات العلمية لا تختلف كثيرا في مواجهتها عن جرائم التعدي علي الأراضي أو بناء الأدوار المخالفة. وعلي الرغم من ردود الأفعال الانفعالية لدي البعض عند فقد عزيز ساقته أقداره لمستشفي حكومي فإن الجديد في الأمر أن الانفعال تجاوز حد التعدي علي الأطباء إلي التعدي علي المرضي ذاتهم بنزع الأجهزة و تكسيرها في توجه واضح تجاوز مفهوم البلطجة إلي ترسيخ اشتراكية من نوع جديد و هي( اشتراكية الموت) بعدما عاني المجتمع في الفترة الناصرية من( اشتراكية الفقر) أو بالأحري الإفقار. و قد زادت حدة الجماعية بعد يناير و لكن بسلبية مقيتة بعدما عز علي البعض أن يتوحد تحت راية الثورة لتصبح الإيذائية الجماعية سمة من سمات حوادث ما بعد يناير التي تمثلت في قطع الطرق البرية والسكك الحديدية وغلق مؤسسات تعليمية و إنتاجية. بل و جاء خلط السياسة بالبعد الإجتماعي فيها ليضفي عليها أهمية تفسر دون شك إنتقال معظمها من صفحات الحوادث أو نهايات الأخبار إلي صدارة المشهد. ليدلل الأمر برمته علي حالة اللاوعي المجتمعي الذي يستوي عنده حادث الخطف أو القتل بإعلان دستوري مرفوض أو وفاق وطني مشلول. أما حوادث البلطجة و طلب الفدية و التعويضات مقابل رد المسروقات أو المخطوفين فقد جاء كنتيجة طبيعية منذ أصبحت للبلطجة استراتيجية رسمية خرجت من أضابير مؤسسات الأمن لقمع الثوار إبان أحداث يناير و لإيجاد حالة من البلبلة الأمنية, حيث انسحبت هذه الشرعية المفتعلة علي عناصر البلطجية الذين ازدادت أعدادهم و أساليبهم بعدما انفرط عقد الأمن و زادت معدلات البطالة عن الحد غير المحتمل اجتماعيا. من عجب أن مراصد معدلات الجريمة و الفساد قد خرجت في وسائل الإعلام بإحصائية تشير إلي زيادة حجم الفساد في المجتمع بعد ثورة يناير في لوغاريتم من النوع المصري الذي جعل من الطهارة شعارا ثوريا و إن ظل مؤجلا بحكم جفاف مياه التطهر في أحواضها, أو بإعمال القاعدة الشرعية للضرورات التي تبيح المحظورات. و من ثم توارت هذه الأنواع من الجرائم من أخبار الحوادث حتي ليخال للمرء أن المجتمع قد أصبح ملائكي النزعة. أما آخر مستحدثات الجرائم التي لا نطالعها في أخبار الحوادث هي السرقات ذات التوصيف المبهم علي غرار خطف الثورة أو سرقتها و كذا ضياع الحلم القومي أو طمسه, و هي جرائم قد لا يمكن مواجهتها بقوانين من نوع العزل السياسي أو حتي نظيره القديم الخاص بإفساد الحياة السياسية. و إن ظلت هذه الجرائم في المقابل من النوع الذي لا يسقط بالتقادم, لأنها تستقر في ضمير الأمة لتحفر في ذاكرة الشعوب أخاديد يصعب محوها مهما طال عليها الأمد حتي يطالها حكم التاريخ.. و ما أدراك ما هو. المزيد من مقالات د. حسن السعدي