هزت حادثة قتل سائق اتوبيس المقاولون العرب عددا من زملائه في العمل واصابة آخرين كيان المجتمع المصري, فهي جريمة عنف جديدة في مسلسل جرائم العنف الجماعي. ولكنها هذه المرة في مجال زملاء العمل ودون سبب واضح حتي السيناريوهات التي ذكرت حتي الآن والتي تتحدث عن اختلافه مع بعض زملائه في صفقة تنقيب عن الآثار. أو اضطرابه النفسي نتيجة لرفضه حركة نقل داخل ادارته وإجماع زملائه علي انه مثال للانضباط والاحترام والأدب لدرجة الخجل وتأكيد رؤسائه خلو ملفه الاداري والصحي من المخالفات أو التجاوزات أو الامراض طوال مدة خدمته التي تبلغ24 عاما داخل الشركة وغير ذلك من أقوال وتفسيرات لا تفصح عن الاسباب الحقيقية وراء هذه الجريمة البشعة ولكنها تثير العديد من التساؤلات التي لن ترد اجاباتها إلا في تقارير النيابة العامة حيث إن القضية مازالت قيد التحقيق. وبالرغم من أن هذه الاجابات لن تبرر بأي حال من الأحوال قتل الأبرياء أو ازهاق الأرواح إلا أنها تؤكد أن هناك بالفعل حالة من ظواهر العنف داخل مجتمعنا بدأت تتحور إلي طفرات غريبة تتخذ شكل العنف الجماعي وهو أخطر أنواع العنف وأشدها تأثيرا سلبيا علي المجتمع. عن تفسير خبراء علم النفس والاجتماع وإدارة التنمية البشرية لظواهر العنف داخل المجتمع المصري وأسبابه وكيفية علاجه وتحذيراتهم من آثار تفاقمه يدور هذا التحقيق. يوضح الدكتور مكرم شاكر استاذ علم النفس بجامعة عين شمس انه من الناحية العلمية لابد من خضوع مرتكب هذا الحادث الي تحليل نفسي ودراسة لحالته من خلال اختبارات متخصصة للتعرف علي الحالة النفسية والاجتماعية والصحية وتاريخ العائلة للكشف عن العوامل الوراثية والعوامل المحيطة به للتعرف علي ما إذا كان مريضا نفسيا عقليا أو مصابا بانفصام أدي الي عدوانية انفصامية وهذه الحالات قد ترتكب جرائم قتل وهو مرض له ظروفه وأحكامه, أما اذا ثبت عدم مرضه فلابد من التعرف علي الأسباب النفسية التي أدت الي ارتكابه لمثل هذه الجريمة البشعة لأن كل حالة تختلف عن الأخري ولكن بشكل عام هناك تفش لظواهر العنف في السنوات الأخيرة ولم تطل السائق متوسط التعليم فقط بل أصبحت بين المثقفين والأطباء والمحامين وغيرهم, والعنف ليس هو القتل ولكن هناك عنفا بالكلام والسلوك والاشارات والعبوس والتهديد والضرب. وبعده تأتي مرحلة القتل ثم القتل الجماعي وهو أعنف من القتل الفردي إذن فالجماعية هي الخطورة والظاهرة الغريبة علي مجتمعنا والسؤال الذي يطرح نفسه علي الساحة هو ماذا حدث في المجتمع المصري؟! ويضيف الدكتور مكرم شاكر ان الظواهر الحالية تشير الي زيادة أعمال العنف في السنوات القادمة خاصة داخل الأسرة ولذلك لابد من إعادة النظر في مفاهيم التربية التي ينشأ عليها أطفالنا فلا يجب أن نغرس فيهم السلوك الهجومي والعدواني, ولكن يجب ان يكون الطفل مسالما يستطيع ان يتصدي للعدوان والدفاع عن نفسه إذا لزم الأمر كما يجب الحد من مشاهدتهم لأفلام الأكشن واستغراقهم في الألعاب العدوانية سواء في أجهزة الكمبيوتر أو ما يشابهها من أجهزة لعب حديثة البلاي ستيشن وبالنسبة لفضائيات يجب ان تقلل من جريمة الأفلام العنيفة التي تعتمد علي الجريمة في أحداثها لأن تقليد الأفلام الأجنبية كان سببا في العديد من الجرائم المستحدثة علي مجتمعاتنا العربية. ولا يجب التقليل من أهمية وآثار الجرائم الفردية لأن التفاصيل الدقيقة بها قد تكون مؤشرا لحوادث أعنف وأشد خطورة قد نفاجأ بها بعد ذلك مثل العنف الجماعي الذي ظهر في حالات التحرش ثم القتل والعنف الأسري والعنف داخل المدارس والجامعات وبين الفئات والطوائف بعضها البعض والتي تدل علي حالة من الخلل الجماعي الذي قد يؤدي إلي فوضي كاملة, وهناك احصائيات علمية تؤكد زيادة معدلات العنف خلال ال5 سنوات الماضية إلي أضعاف مضاعفة حتي إن السمة الواضحة بين الأفراد هي اننا أصبحنا في حالة تحفز دائم. يري الدكتور هاشم بحري أستاذ الصحة النفسية بجامعة الأزهر ان هناك حالة من الجهل بكيفية التعامل مع الأزمات والسعي وراء التخلص منها بأقصر الطرق وأصبح العنف إحدي الوسائل المتبعة لحل هذه الأزمات وذلك يرجع لعدة أسباب منها غياب القدوة الذي يساعد الإنسان علي التخلص من التوتر والضغوط بالشكل السليم عند اللجوء إليه. وكذلك المبالغة الشديدة التي تلجأ اليها وسائل الإعلام عند ذكر الحوادث والجرائم, فلقد أصبح لدينا جرائد للحوادث وبرامج تليفزيونية للجرائم وامتد ذلك الي أفلام الكرتون وألعاب الأطفال التي تحث علي العنف فأصبح العنف وسيلة لعلاج المشاكل بالنسبة للصغير والكبير حتي إن مناظر القتل والموت صارت معتادة للمشاهدين في الأفلام والجرائد. ومع هذا الحجم من التركيز علي الحوادث نجد أن ذكر العقاب المطبق علي الجاني لايلغي مثل هذه المساحات, وهذا لايعني رفض ذكر الأحداث والأخبار ولكننا نرفض المبالغة فيها والتركيز عليها. تؤكد الدكتورة عزة كريم خبيرة علم الاجتماع بالمركز القومي للدراسات الاجتماعية والجنائية ان المواطنين في أي مجتمع لديهم قوة تحكم عند خسارة بعض حقوقهم ولكن هذه القوة تقف عند حد الوصول إلي مرحلة اليأس من إيجاد العلاج أو الحلول, ففي حالة عدم توافر بدائل لإشباع الحاجات الأساسية والحصول علي الحقوق تكثر المشاكل والضغوط وعندما يعجز المواطن عن حلها يتحول إلي وحش كاسر وانسان عنيف ينتقم دون تفكير أو تعقل وتنحرف سلوكياته خاصة إذا ما كان المواطن يعيش في متناقضات مجتمعية يتمتع فيها بعض الفئات بجميع المزايا والرفاهية الشديدة والحماية المطلقة حتي إذا ارتكبوا مخالفات أو أنواعا من الفساد فهم فوق القانون ولا تطبق عليهم التشريعات ومواد الدستور وباقي الفئات الغالبية تعاني من الدخول الضعيفة وارتفاع الأسعار وعدم القدرة علي الوفاء بالمتطلبات الأساسية للمعيشة اضافة الي عدم وجود ضمانات تحافظ علي حقوقهم خاصة في مجال العمل وتفشي البطالة وعدم القدرة علي التوازن مع هذه الأوضاع تؤدي بالبعض إلي الانتحار وهناك ارتفاع في نسبة الانتحار في السنوات الأخيرة والبعض الآخر الذي يشعر بالضرر الجماعي يلجأ إلي المظاهرات والاعتصامات لدرجة التخلي عن الملابس لإبراز درجة اليأس والضيق التي ألمت بهم. ولمعالجة هذه السلبيات يجب أن يتم تعديل بعض النظم والقوانين لمنح الموطن احتياجاته الأساسية بصورة كريمة وتعديل النظم والقوانين العمالية لإعادة الثقة بين المواطن والنظام والتخلي عن الإحساس بالظلم والكره والرفض الباعث إلي العنف واستبدال ذلك بالرضا والشعور بالأمان والاستقرار مما يسهم في تنمية المجتمع. ضعف ادارة التنمية البشرية وعن تأثير فقدان قنوات الاتصال بين العامل ورؤسائه تقول الدكتور آية ماهر استاذ تنمية الموارد البشرية بالجامعة الأمريكية: في واقع الأمر إن هذا الحادث المفزع يعتبر واقعة فريدة من نوعها ومستحدثة علينا كما لو كنا نشاهد أحد الأفلام الأمريكية وهي وقائع نسمع عنها في بعض الدول الغربية التي تنتشر فيها الجرائم وأعمال العنف ولايمكن ان نتصور أن هذه الجريمة حدثت في مصر. وهذا يقودنا إلي جذور المشكلة حيث انه لايمكن ان يكون الحد الأدني للأجور في الدولة246 جنيها فمرتب الموظف الحكومي لا يكفي ان يعيش عيشة كريمة في ظل ارتفاع الأسعار هذا بالإضافة إلي بيئة العمل الخانقة والأزمات الاقتصادية التي تحيط بالموظف وشبح الاستغناء عنهم من خلال شركاتهم وانضمامهم لطوابير البطالة والتي ارتفعت معدلاتها نتيجة لندرة الوظائف البديلة المتاحة لهم والتي أشار لها تقرير التنمية البشرية لعام2010 والذي أكد ارتفاع معدل البطالة إلي ما يقرب من10% بالرغم من أن تقرير التنافسية لمصر لعام2010 أشار إلي تحسن مستوي مصر في التنافسية من الترتيب81 إلي.77 وهذا كله كفيل ان يمثل ضغوطا هائلة علي الموظفين ولذلك لابد من رفع مستوي أجور العاملين بالشكل اللائق وتوفير عوامل الاستقرار والأمان في العمل. أما عن بيئة العمل الداخلية فهي تفتقد لمنظومة الموارد البشرية بمنظورها الأشمل, فنحن نكتفي بإدارة لشئون العاملين تختص بالتأمينات والمعاشات ورصد الحضور والغياب فقط, فلا يوجد لدينا استبيانات تقيس رضا العاملين عن بيئة العمل وعن الرؤساء وتستطلع اداءهم في بحث شكواهم أو اتخاذ القرارات المصيرية لمؤسساتهم وهذه الحقوق مكفولة للعاملين في الدول المتقدمة التي تهتم بإدارة الموارد البشرية. وتضيف الدكتورة هدي عبد الحليم استاذ علم الاجتماع ان هذه الحادثة العنيفة تثير بعض التساؤلات التي يجب ان نجد اجابات لها وهي كيفية الحصول علي سلاح لارتكاب جرائم العنف, فبالنسبة لهذه الجريمة فإن السلاح المستخدم بندقية آلية وهي مرتفعة السعر فكيف لمثل هذا السائق الحصول علي هذه البندقية ومن أين؟! لابد أن نتعرف علي الاجابة لنسد هذه المنافذ السرية لتجارة السلاح والتي تيسر ارتكاب الجرائم وتساهم في تفشيها, فهي الاداة التي يجب ان نقضي عليها وهي مهمة القطاع الأمني, أما السلوك فهو مهمة العديد من الجهات والتي تبدأ بالأسرة والمدرسة والجامعة ووسائل الإعلام المختلفة. ويجب ان نعي مدي خطورة زحف هذه الظواهر العنيفة علي كيان المجتمع فهناك جرائم عنف بشكل يومي سواء خلال المشاجرات أو بغرض السرقة أو جرائم القتل الثأرية وكل جريمة لها دوافعها, وهذه الدوافع تنبع من فقد لغة الحوار أو وجود أزمة اقتصادية..