لم تداعب آدم يوما أحلام الثراء, فقد كان كل طموحه أن يصبح أستاذا جامعيا, وحقق ما كان يصبو إليه, عندما بلغ الخامسة والعشرين من عمره, وصار أستاذا للفلسفة, وحلق في فضاءات الشهرة في بريطانيا وأوروبا. لكن الفيلسوف آدم سميث, لم يستمر طويلا في الجامعة, فقد سئم رتابة نظامها, وقدم استقالته عام1764, وأصبح معلما لابن أحد الأمراء, واصطحب الفتي الصغير في رحلة إلي أوروبا. غير أن الرحلة الأوروبية لم ترق للفيلسوف, وشعر بالملل, وفكر في طريقة إيجابية لازجاء وقت فراغه, وعكف علي تأليف كتاب, و كان هذا ما ذكره في رسالة بعث بها لأحد أصدقائه. واستغرق آدم في تأليف الكتاب نحو عشر سنوات, وأضحي الكتاب من أهم الكتب التي صدرت في القرن الثامن عشر, وغيرت مسار الدنيا ومصيرها. إنه كتاب ثروة الأمم الذي نشره الفيلسوف عام1776, ووضع فيه أسس النظرية الرأسمالية. وكان آدم يؤكد أن كتابه يستهدف مصلحة الإنسان العادي, أكثر مما يستهدف مصلحة الأمير, وأوضح أنه اكتشف أسرار تحقيق الثروة. وظل آدم نجما ساطعا منذ زمنه وحتي مستهل القرن العشرين, وأفل نجمه بسبب أعاصير الكساد الكبير الذي أصاب النظام الرأسمالي, وكان أن تقدم مفكر اقتصادي بريطاني هو جون كينز بعلاج للأزمة, عبر زيادة الإنفاق الحكومي لتحقيق الانتعاش. لكن كينز اضطر مرغما إلي الانزواء, عندما فاز ريجان بالرئاسة الأمريكية عام1980, فقد بادر باستدعاء آدم سميث وأطلق للرأسمالية وللسوق الحرة العنان, وشكل ريجان مع المرأة الحديدية مارجريت ثاتشر تحالفا سياسيا, وتصديا معا للاتحاد السوفيتي حتي سقط عام.1991 وكان معني هذا تحولا سياسيا واقتصاديا في العالم بأسره, وكان ذلك التحول يشير إلي ما يمكن أن نطلق عليه مرحلة حضارة السوبر ماركت وظهور المستهلكين, وتراجع المواطنين, ولعل أبرز ما كان يعبر عن هذه المرحلة هو سيليفو بيرلسكوني رجل الأعمال الإيطالي الذي أصبح رئيسا للوزراء. لقد فاز أغني الأغنياء في إيطاليا بالسلطة, وكان هدفه المعلن تحصين ثروته الطائلة ضد هجمات السياسيين اليساريين. ولم يبرح السلطة إلا قليلا طوال نحو عقد كامل, برغم فشله وفضائحه, وكان قد فاز في انتخابات2011, وظل عالقا بالحكم حتي هزيمة حكومته في مجلس النواب عام2011 بسبب ما ألحقه بالبلاد من أزمات. وكانت سنوات حكم بيرلسكوني تمثل تلاعبا خطيرا بأفكار آدم سميث, فلم تعد الرأسمالية في خدمة الرجل العادي, وإنما أضحت في خدمة الأمير, والأمير في هذا السياق هو بيرلسكوني. ولايزال الأمير يود أن يحمي ثروته عبر امتطاء جواد السلطة, وكان هذا ما أشار إليه عندما بدأت بوادر إجراء انتخابات مبكرة, غير أن الخبراء يؤكدون تضاؤل فرص فوزه, ويقول ماسيمو فرانكو المحلل السياسي الإيطالي: إن بيرلسكوني نفسه لا يتوقع الفوز في الانتخابات وكل ما يسعي إليه هو تشكيل مجموعة يمكنها الدفاع عن مصالحه. وهكذا يبقي أمراء حضارة السوبر ماركت حتي آخر حياتهم لا يعنيهم سوي مصالحهم الشخصية, أما مصالح المواطن العادي فلتذهب إلي الجحيم, وياحبذا لو ذهب هو كذلك, وكأنهم يرددون بصلف وغطرسة ما قالته مارجريت ثاتشر يوما: إن الفقراء زائدة دودية ينبغي بترها. عالم الرأسمالية وأقطابها عالم فظ, وغليظ القلب. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي