أفوز دائما, وسأجعل بلادي تفوز هكذا, كان يتحدث بزهو رجل الأعمال سيلفيو برلسكوني المرشح لرئاسة الوزراء في انتخابات.1994 وتمكن عبر بريق ثروته الطائلة, وسطوة امبراطوريته الاعلامية, والجماهير الغفيرة لنادي كرة القدم الذي يمتلكه من الفوز. لكن أسباب فوز بيرلسكوني كانت أعمق. فقد انكشف الغطاء عن ايطاليا في أعقاب الانقلاب السياسي الكوني الذي انهار فيه الاتحاد السوفيتي ونظامه الشيوعي عام.1991 ومن ثم تقوض نفوذ الحزب الشيوعي الايطالي. وسقطت ورقة التوت, التي كان يحتمي بها الحزبان الكبيران اللذان تداولا السلطة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وهما الحزب المسيحي الديمقراطي, والحزب الاشتراكي. ولم يعد لدورهما كحائط صد ضد الشيوعية أي مبرر. وما إن أفل دورهما, حتي زكمت الأنوف وقائع فساد أقطابهما وطاردهم قضاة الأيدي النظيفة, وأصبحت السجون مستقرهم ومأواهم. وفي ظل هذا الفراغ السياسي والحزبي, قفز حزب بيرلسكوني إلي الأمام يا ايطاليا إلي السلطة. غير أن زعيمه المليادير لم يصمد طويلا. واضطر الي الاستقالة من رئاسة الوزراء بعد نحو ثمانية شهور. وانتقل الي مقاعد المعارضة في البرلمان. وظل كذلك, حتي حان موعد انتخابات.2001 وتمكن من الفوز بها. وكانت صدمة مروعة. وقالت مجلة بريطانية جادة ورصينة هي الايكونوميست ان فوز بيرلسكوني برئاسة الوزراء يوم أسود للديمقراطية الايطالية وحكم القانون. لقد هبط بيرلسكوني بايطاليا من مصاف الدولة الي متاهات السوبر ماركت وحول الايطاليين من مواطنين الي مستهلكين, فيما يعد تدشينا لحكم الأمير التاجر ورجل الأعمال. ومحا الخط الفاصل بين المصلحة العامة والمصلحة الشخصية. وفاقم من ديون ايطاليا, ومن تعاسة شعبها من جراء زيادة عدد العاطلين. ولم يعد في وسعه أن يسليهم باغنياته القديمة. ذلك أنه كان مطربا علي سفينة سياحية في مستهل حياته. لكنه تمكن من العمل في قطاع المقاولات, وحقق ثروة طائلة. وأصبح امبراطورا للاعلام والسوبر ماركت. ولعله يذكرك بعازف الطبلة( الدرامز) المصري أحمد عز, الذي ما إن أصبح صديقا للوريث حتي احتكر الحديد والصلب. وأصبح قطبا في الحزب الوطني الحاكم. وشكل ركنا بارزا في حكم عصبة رجال الأعمال, علي غرار حكم بيرلسكوني, وان كان أضل سبيلا بسبب تحالف الاستبداد والفساد. واذا كان عازف الطبلة المصري ورئيسه وزبانية نظامه قد اسقطتهم ثورة25 يناير, فان استقالة بيرلسكوني يوم12 نوفمبر, أو بالأحري سقوطه جاء بسبب فشله الذريع في التوصل إلي حلول لتراكم الديون وزيادة معدل البطالة, في سياق الأزمة الاقتصادية الطاحنة. وكان سقوطه مثيرا, فقد أشار الخبراء إلي أن السوق الحرة التي خذلها هي التي أطاحت به. وهنا يقول الراوي: انه التجلي الوحيد وربما الأخير لليد الخفية. واليد الخفية هي المصطلح الغامض الذي أطلقه آدم سميث مؤسس النظرية الرأسمالية, والمدافع بحرارة عن السوق الحرة في كتابه ثروة الأمم الصادر عام.1776 وتصور أن اليد الخفية قادرة وحدها, دون أي تدخل من جانب الحكومات, علي ضبط الأسواق وتصحيح مسارها. لكنها لم تظهر سحرها المنشود وقت الركود العظيم في أوروبا وأمريكا في مستهل الثلاثينيات. وبطلت تعويذاتها تماما في أزمة الانهيار المالي العالمي عام.2008 لكن الغريب والعجيب أن اليد الخفية هي التي سددت لطمة قوية لبيرلسكوني علي حد تفسير نفر من الكتاب والخبراء, وحتي اشعار آخر. وأيا ما يكن هذا الاشعار, فان الايطاليين احتفلوا بسقوط المطرب السياحي, وكانت الفرحة قد غمرت المصريين بسقوط عازف الطبلة ورئيسه والوريث. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي