حصل حزب الحرية والعدالة في الانتخابات البرلمانية السابقة(2011 م) علي النسبة ذاتها تقريبا التي كان حزب العدالة والتنمية في تركيا قد حصل عليها في انتخابات2002(40%). غير أن كل ما جري للحزبين بعد ذلك يبدو مختلفا تماما حتي الآن, حيث تحرك العدالة والتنمية من نجاح إلي آخر, فيما يسير الحرية والعدالة من فشل إلي فشل, ما يشي بتباين في الاتجاهات, وربما تناقض في المآلات, والسؤال: لماذا؟. ببساطة.. لأن الحزب التركي جاء ردا علي تحد واقعي, وإجابة علي سؤال مطروح. كانت تركيا بلدا علمانيا لا بالمعني الأوروبي التقليدي, حيث الفصل بين الدين والسياسة في المجال العام, ولكن بمعني خاص يمكن وصفه ب العلمانية الأصولية, أي علمانية متطرفة, حيث ترعي الدولة العلمانية وكأنها الدين الخاص بها, وتطارد الدين في المجتمع, مترصدة لباس المتدينين, وطقوسهم التعبدية, ومدارسهم الدينية, مما كان يضع الإنسان التركي في تناقض ويطرح عليه التحدي الشاق: كيف يستمر في الوفاء لإيمانه الإسلامي, دون قطيعة مع شبكة تفاعلاته الحياتية علي أصعدة الدراسة والعمل والانتماء النقابي والحزبي وغيرها من مفردات شبكة التواصل الاجتماعي الناجمة عن الانتماء الوطني؟. وقد نجح حزبا الرفاه بقيادة نجم الدين أربكان, والعدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان في التصدي لهذا التحدي: الأول نجح في الإشارة للحل دون الوصول إليه, والثاني نجح في بلوغه, مجسدا إياه, وممارسا له, ردا علي السؤال الكبير: كيف تصالح بين العلمانية السياسية والإسلام الحضاري؟. عندما أتي أردوغان إلي مصر زائرا في صيف2011 وجد استقبال الفاتحين, الذي يستحقه, ولكن بمجرد أن صرح بالهوية العلمانية لحزبه, داعيا أصدقاءه من إخوان مصر للسير علي الدرب نفسه تكريسا للديمقراطية الحقيقية, وجدا صمتا مريبا, ودهشة غالبة, أخفيا شعورا بالصدمة من قبل من هللوا سلفا للرجل والنموذج الذي يمثله والبلد الذي أتي منه, إذ كيف يدعوهم إلي علمانية بنوا كل تاريخهم علي قاعدة مواجهتها, والتخلي عن وصف( إسلامي) الذي بنوا شرعيتهم علي أساس التعبير عنه, باعتباره الحل السحري لمشكلة النهضة والضامن الأساسي لتحدي البقاء؟. وهنا يتبدي حجم التباين بين إسلاميي تركيا, وإخوان مصر, علي صعيد القدرة علي التجديد الفكري, والتمثل القيمي. ففي تركيا حيث الأتاتوركية تمثل أصولية علمانية, كان ممكنا بروز علمانية معتدلة تتوافق مع الإسلام علي نحو يوفر للإسلاميين الأتراك مجالا للإضافة والتجديد, بل يبرر وجودها من الأصل, إذ يجعل منهم إجابة واقعية علي سؤال حقيقي. أما في مصر حيث الدولة مدنية حقا منذ القرنين, ترتكز إلي علمانية معتدلة من الأصل توقر الإسلام وتحترم الأديان, يصبح من الصعب علي إخوان مصر امتلاك هامش واضح للتغاير عن البنية الثقافية التي يرتكز عليها النظام السياسي المصري, أو تقديم إضافة كبيرة لهذا النظام من داخل فضاء الدولة المدنية نفسه, فكل محاولة للتغاير مع البنية السائدة, وكل مسعي للانقلاب عليها ليس إلا خروجا علي قواعد الدولة المدنية التي يضطرون إلي إظهار احترامهم لها, علي العكس من السلفيين الأكثر صدقا مع أنفسهم, حيث تمنحهم دعوتهم الصريحة إلي دولة الشريعة, وهي الدولة الدينية في النهاية, هامشا واسعا للإضافة ولو السلبية, الأمر الذي يضع الإخوان في مأزق وجودي حقيقي, إذ يجعل منهم إجابة خاطئة علي سؤال غير قائم من الأصل في مصر, تؤدي كل المحاولات المصطنعة لاستحضاره إلي القضم من جوهر الدولة المدنية, والنحر في عضد القيم الديمقراطية, وهي الحقيقة التي يهربون منها ويسعون للتعمية عليها بالمناورات السياسية المتلاحقة. لقد وصل الإخوان إلي الحكم في بلد متمدين وعريق ربما بامتداد التاريخ, ترسخت الدولة الحديثة لديه منذ قرنين علي الأقل, وبعد ثورة علي نظام سياسي أفقد المصريين الشعور بالحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية داخليا وخارجيا, ولكنه لم يحل دون تدينهم, بل علي العكس نما التدين المظهري في ظله. ولذا كان مطلبا الثورة الأساسيان هما الحرية والعدالة, اللذين انتحل الحزب الإخواني اسمهما, ولكنه سرعان ما أدار ظهره لهما, معليا مطلب الشريعة, مزايدة علي السلفيين أو خضوعا لابتزازهم, فإذا به يقدم للمصريين إجابة علي سؤال لم يطرحوه أصلا حول هوية مصر, وموقع الإسلام فيها, ودور الشريعة بها, فيما لم تكن الشريعة موضع جدل حقيقي أبدا, ولم يكن الإسلام مضطهدا يوما, بل ربما كان المصريون أحد أكثر المجتمعات الإنسانية تدينا لأسباب ليس هذا مجالها. وفي المقابل تنكر الحزب للأسئلة الحقيقية المطروحة, وهو الأمر الذي فجر كل التوترات الراهنة, وأثار الخروقات العديدة لسيادة القانون ومفاصل الدولة طمعا في حكم طويل ممتد, لا تستطيع صناديق الانتخابات أن تنهيه بسرعة أو بسهولة. وهنا يواجه الإخوان مأزقا حقيقيا لا يمكن الخروج منه إلا بطريق واحد قويم هو الاعتراف الشجاع بأن ما كانته مصر عبر قرنين هو الدولة المدنية الحق التي نرجوها, وإن شوهتها بثور عسكرة وشمولية يجب استئصالها, ما يجعل دورهم المرجو هو الإبحار عميقا في بني الديمقراطية, والاحترام العميق لقيمها, من دون بذل جهد ضائع لتمييز أنفسهم عمن سواهم من قوي مدنية أو ليبرالية. وهكذا وفي نهاية الطريق سوف يكتشفون أنهم ليسوا أكثر من جماعة وطنية, وحزب سياسي, أي مجرد إخوان مصريين وللمصريين, ما يستطيعون إضافته للديمقراطية قياسا إلي أي حزب ليبرالي هو فقط نوع من المحافظة الأخلاقية علي طريقة الجمهوريين في الولاياتالمتحدة, أو المحافظين في انجلترا, والديمقراطيين المسيحيين في ألمانيا, والذين يعملون جميعا علي أرضية الديمقراطية الليبرالية, ولا يجادلون في قواعد الدولة المدنية. أما البديل لهذا الطريق فهو الإبحار عميقا في رحلة عبثية من اللف والدوران والغموض, يسودها جدل بيزنطي حول علاقة الهوية بالحداثة, والديمقراطية بالإسلام, والحرية بالإيمان, علي نحو ما تجسده مقولة الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية, والتي لا تعدو أن تكون عرضا جانبيا لمحاولة اصطناع خصوصية سياسية غير قائمة في الحقيقة, وسموا أخلاقيا غير موجود في الواقع, ولا حاجة من الأصل لهما سوي المزايدة علي القوي الأخري, حشدا للمصوتين, ونفاقا للمريدين. المزيد من مقالات صلاح سالم