د.مصطفي عبد الغني لم يعرف عنه عمق التفكير وحسب, وإنما اضاف اليه الجرأة في التعبير, هذه هي السمة التي توافرت في الراحل الكبيير, وهي سمة لانجدها لدي الكثير من مفكرينا ومثقفينا اليومان يجمع بين الفكر والفعل, بين ان يتفرغ لابداء الرأي وفي الوقت نفسه لتحويل هذا الفكر الي عمل. فلم يكتف الجابري الذي رحل عن عالمنا الاثنين الماضي بكتبه وكتاباته الفكرية الكثيرة, وانما اضاف اليها قبل هذا الوعي بضرورة ان يقترن الفكر بالفعل, ففي الوقت الذي عرفنا له كتابات مهمة هنا كرباعيته المميزة نقد العقل العربي. فان له من الكتابات الفكرية المهمة العقل السياسي العربي(1990), والعقل الأخلاقي العربي(2001). فضلا عن تآليف أخري كان آخرها ثلاثة مجلدات عن القرآن وتفسيره.فضلا عن اهتمامه الكبير بمسألة الديمواقراطية, فاضاف من هنا الي الجانب الفكري الخالص الجانب الفعلي حين حول خطوط الفكر لأكثر من نصف قرن الي خطوط الحركة الفاعلة للمثقف العربي.. نقول انه الي جانب هذه الكتابات الفكرية لم يشغل' بالتظير'او باختلاق قضايا شائكة وانما تجاوز ذلك كله الي الفعل الحقيقي, ومن يعرف الجابري يعرف مواقفه الفعلية التي تكررت كثيرا.. حتي ان مفكرا عربيا مثل الطاهر لبيب يصيح في اسي حين جاءه خبر رحيل الجابري:' كان من أوائل من حول النص إلي خطاب واقترح بنية للعقل العربي فخط مسارب جديدة أخذته, نهاية المطاف, إلي القرآن واكثرنا في الربط المعرفي بين المشرق والمغرب' وهو الامر الذي جعل تاثيره يتجاوز القلم والورق إلي فضاءات عربية بعيدة. والجابري بهذا المنطق لم يعرف كاستاذ للفلسفة في الجامعات العربية وحسب, وانما عرف قبلها كمناضل كبير في جماعات العمل الوطني ضد الاستعمار الفرنسي للمغرب في بداية خمسينيات القرن العشرين, كما كان قياديا بارزا_ كادر فعلي- في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي شغل لفترة طويلة عضوية مكتبه السياسي قبل ان يتفرغ للعمل الفكري والعلمي في السنوات الاخيرة.. والجابري رفض الفصل بين الفكر والفعل, فالي جانب مواقفه العملية الفعلية بالنضال ضد المستعمر, فانه آثر النضال في مجال الفكر في الداخل ايضا, ففي الوقت الذي رأينا عددا كبيرا من المثقفين العرب يرضون بالعمل تحت ادارات متخلفة والحصول علي جوائز يمكن ان تنال من مصداقية المثقف او المفكر بدا الجابري اكثر وعيا في تعاملاته اليومية في العالم العربي, فالي جانب مواقفه الوطنية الصارمة في عديد من المواقف العربية فانه لم يقبل اية جائزة تهدي اليه لتنال من اسمه كرمز وفكره كفعل, راينا هذا في العديد من اعماله, فالمعروف ان الجابري حين اعلن انه سيحصل علي جائزة الرئيس العراقي صدام حسين ومقدارها100 ألف دولار اعتذر عنها علي الفور, وحين اعلن انه سيحصل علي' جائزة العقيد معمر القذافي لحقوق الإنسان' وقيمتها32 ألف دولارعلا صوته في وكالات الانباء هنا وهناك نافيا ذلك, الاكثر من هذا ان التاريخ يذكر له انه حاول الخلاص من مأزق الانتماء لهذا المؤتمر وتلك الجمعية كيلا يؤثر اي انتماء في فكره, وهومابدا اكثر وضوحا حين رفض الانضمام إلي الأكاديمية الملكية المغربية التي تضم نخبة من المفكرين والكتاب من المغرب وأوروبا والولايات المتحدة وإفريقيا وآسيا. وحين شاهد انتماء عدد كبير من المثقفين الي المنظمات او الجمعيات الرسمية رفض ذلك, فهو منذ البداية كان فاعلا في الحركة النضالية ضد المستعمر ثم فاعلا كمثقف فاعل في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية., ومن يتابع ما كتب عنه اثناء حضوره بيننا او بعد رحيله يكتشف انه صاحب مشروع فكري كبير حاول ان ينميه ويثريه من آن لآخر بالوعي في التعامل مع التراث العربي او الفكر الغربي ومواقفه منا في العصر الحديث.. وعلي هذا النحو, لايمكن ان نذكر الجابري اليوم دون ان نذكر قيمة العقل والعلم لا الجهل, فهو لم يتردد في عديد من مواقفه الجريئة ان يردد ان هجاءه كله لاينصرف الي انسان بعينه او فكر بعينه وانما بالحرف الواحد الي'الجهل'; فالجهل في التعرف علي القضايا العربية ومكانة العقل العربي في عواصف هذا العالم الكبير المضطرب يصبح فرض عين.. وقد كان الجابري دائما عدوا للجهل حليفا للعقل الواعي المستيقظ المنير.. وهومابقي منه بعد رحيله..