تعد أزمة مياه نهر النيل أكثر اختبارات السياسة الخارجية المصرية إلحاحا في الفترة الراهنة, لاسيما بعد الفتور الذي شهدته العلاقات المصرية- الإفريقية في العهد السابق، وكذلك شدة الخلاف بين دول الحوض حول اتفاقية عنتيبي, وشروع إثيوبيا في بناء شبكة من السدود علي النيل الأزرق. وفي إطار ذلك, عقدت مجلة' السياسة الدولية' مائدة مستديرة تحت عنوان' مصر ومياه النيل.. ما العمل؟', حيث أشار الأستاذ أبوبكر الدسوقي, رئيس تحرير مجلة السياسة الدولية, إلي أن الهدف من المائدة هو الخروج برؤية متكاملة للبدائل والأدوات, التي يجب أن تتبناها السياسة الخارجية المصرية للتعامل مع الملف. اتفق المشاركون في الندوة علي أن غلبة الجانب الفني والهندسي في معالجتها من أهم أسباب المشكلة. حيث وصف السفير رفيق خليل الأزمة بأنها ذات أبعاد متعددة سياسية, واقتصادية, وفنية, وقانونية, وأن الطابع الفني والقانوني غلب علي المعالجة لها, قائلا إن الظروف الراهنة تستدعي إيجاد فرص للتقارب مع دول المنابع ومعالجة السلبيات والتنسيق الكامل مع السودان بشأن ما سيترتب علي اتفاقية عنتيبي.واتفاقا مع الرؤية السابقة, أوضح د. محمد سلمان أن المشكلة بالأساس في أزمة مياه النيل هي أن مدرسة الراي المصرية عكفت علي التعامل مع تلك القضية من منطلق فني هندسي, واصفا المشكلة بأنها سياسة في المقام الأول. وتطرق د. أيمن عبد الوهاب إلي أن الأزمة أبعد من كونها مجرد خلاف سياسي, أو طغيان البعد الفني عليها الذي يظل عاجزا أمام خلق بدائل تنموية توفر الطاقة وتلبي احتياجات دول الحوض, قائلا إنه ينبغي النظر إليها في إطار ثلاثية الأمن المائي, والغذائي, والإنساني, في ظل التنافس الذي تشهده المنطقة التي تجاوزت الميراث التاريخي لتلتقي بمصالح أخري, ربما مع قوي عربية أو أوروبية أو آسيوية تتنافس جميعها في منطقة الحوض. وفي السياق نفسه, أكد د. لواء أحمد عبد الحليم أن ما تشهده المنطقة من صراعات هو المحك للأمن القومي المصري, بداية من السودان بدولتيه حتي الامتداد الاستراتيجي عبر دول الحوض. ومن جانبه, أكد د. السيد فليفل أن المشكلة تكمن في فقدان الرؤية, وذلك لأن النخبة السياسية المصرية القائمة علي العمل التنموي والثقافي لم تجلس حتي الآن لتضع مشروعا جديدا. ومن هنا, دعا دكتور فليفل إلي أنه يمكن استثمار فترة ما بعد الثورة كفرصة للانطلاق نحو القرن الحادي والعشرين. وفي كلمته, أوضح الوزير السابق د. نصر علام أن مشكلة المياه في بعدها الفني تحمل أهدافا وآثارا سياسية واقتصادية جعلتها مشكلة بقاء أمة, تعتمد في مصدرها الوحيد علي مياه النيل, فحرمت مصر من مرونة التفاوض بشأن أي مصادر أخري يمكن استخدامها, مشيرا إلي أن هناك إشكاليات مرتبطة بنقص الكوادر البشرية المؤهلة فيما يتعلق بملف حوض النيل, علي عكس باقي دول الحوض, وسياسة ردود الأفعال التي تتبعها الإدارة المصرية في حل الملف.وذكر هانئ رسلان أن أزمة المياة استراتيجية, وليست فنية, موضحا أن نتاج سد النهضة الذي ستسخدمه إثيوبيا5 آلاف ميجا وات فقط, ويصدر الفائض منه إلي دول الجوار التي لا تملك درجة عالية من النمو تتحمل الفائض الإثيوبي. قائلا: من هنا, تسقط الحجة الإثيوبية بضرورة بناء السد الذي أعيد تصميمه لمرات عديدة ليصبح ست مرات أكبر من التصميم الأصلي. وتحدث السفير مجدي عامر عن البعد الداخلي للأزمة, قائلا إن كانت مصر علي أعتاب أزمة فعلية مع دول الحوض, فعليها أن تتحرك لتجنبها, لكنها بالفعل تحولت إلي أزمة مائية داخلية لم تتعامل معها الدولة المصرية لفترات كبيرة علي النهج المطلوب.وأضاف حلمي شعراوي أن الأزمة المائية مسألة مصيرية مرتبطة بمستقبل المنطقة التي تشهد اضطرابات وتغيرات في وقت, غاب فيه الدور المصري لصالح آخرين, غايتهم الوصول إلي المنطقة, ليصبح الملف المائي الآن مزيجا من المصالح المتشابكة لفاعلين جدد. وأشار اللواء د. أحمد عبد الحليم إلي أن هناك قضايا استراتيجية رئيسية يجب مراعاتها قبل الدخول في قضايا المياه لبناء القوة الرشيدة للدولة المصرية, ولدعم قدرتها علي التأثير في المجال الإقليمي والدولي. وحدد عددا من الخطوات التي تقود إلي دور مصري مؤثر خارجيا وهي: أولا: وهو أمر به قدر من الجنون علي حد تعبيره- والصعوبات في تنفيذه, وهو نهر الكونغو الذي يدفع للمحيط فائضا مائيا يقدر ب1.58 مليار متر مكعب في الساعة, من خلال ربط نهر الكونغو بمنطقة البحيرات الاستوائية بشكل أو بآخر. ثانيا: الاشتراك المصري في قضايا حوض النيل علي مستوي إقليمي يشمل كل دول الحوض في الاتفاقات الموجودة بسائر اعتباراتها, بالتركيز علي إثيوبيا. ومن جانبه, أكد د. أيمن عبد الوهاب أن أي سيناريوهات للحل لابد أن تتوافر لها موارد, وإرادة سياسية لإنجاحها, وأن فكرة التعاون هي الفكرة الحاكمة في الملف, وهذا لا يعني الاستسلام, أو افتقاد أوراق الضغط, أو عدم اللجوء للضغوط التصعيدية داخل إطار التعاون. بينما أشار نصر علام, وزير الموارد المائية السابق, إلي ضرورة إيقاف بناء السد حتي الانتهاء من أعمال اللجنة الثلاثية, والتحول إلي سياسات الأفعال الرشيدة بدلا من سياسة ردود الأفعال, واستمرار الجهود البناءة مع الجهات المانحة لمنع تمويل مثل هذه السدود, وأيضا زيادة إيراد النهر, وتعويض النقص الناتج عن المشاريع الإثيوبية هو الحل الأمثل, لأن مصر لا تملك ما تقدمه لإثيوبيا لتتنازل عن أحلامها. كما أكد د. محمد سلمان ضرورة الاعتماد علي استراتيجية الالتفاف والتطويق السياسي بمحاصرة دول الحوض سياسيا- وليس من خلال سيناريوهات صدامية- ويكون التطويق علي المستوي الداخلي بإقامة علاقات مع دول الحوض في مواجهة إثيوبيا, وإقامة علاقات مع دول إفريقية في مواجهة دول الحوض. ومن جانبه, شدد السفير مجدي عامر علي عدم الاستغراق في المشاكل الداخلية, لأنه يؤثر بالسلب في الملف, في الوقت الذي قد يدخل فيه مشروع سد النهضة حيز التنفيذ خلال أشهر معدودة, ووقتها نكون أمام مشكلة حقيقية, معتبرا أن الوقت ليس في صالحنا, وأنه ينبغي التحرك علي مستوي( الدولة) من خلال القيادة السياسية للتفاوض, وهو ما كان غائبا في الملف طيلة السنوات الماضية. بينما لفت هانئ رسلان الانتباه إلي اتفاقية عنتيبي, وشكل التعامل معها, مؤكدا أنه ليس من المنطقي توقيع مصر اتفاقية تجعلها في موقف المتفرج العاجز, ويضعها أمام أمرين, هما فتح الباب لتداول قضايا بيع المياه, ونقل المياه من حوض النيل, وهذا يمثل ضررا كبيرا علي مصر, لأنه تنازل بدون مقابل. بينما أوصي السفير رفيق خليل, قائلا: أيا كانت المخرجات من الطرح السابق, فإنه لابد أن يحتل الاستقرار الداخلي الاهتمام الأكبر, لأن أي تحرك سياسي لا ينجح بدون استقرار. وخلصت المائدة إلي أن الوقت الراهن هو التوقيت المناسب لتحرك القيادة السياسية نحو الجانب الإثيوبي, قبل أن يدخل مشروع سد النهضة حيز التنفيذ خلال أشهر معدودة. وأوصت بضرورة التعامل الإعلامي الحذر مع قضية مياه النيل, لأن فكرة النظام السابق واللاحق تشكل خطرا علي الحقوق الثابتة للدولة المصرية التي لا تتغير بتغير النظم. وبأن التحرك للتفاوض لابد أن يتم مع دول الحوض, وأيضا مع الدول الممولة لبناء السدود, وفق عدد من المداخل.وأكدت ضرورة الاستقرار السياسي الداخلي. فإن لم تكن هناك استراتيجية, ونظام ثابت للحكم, ومجتمع راسخ, فلن نستطيع أن نؤدي أي شيء في هذا الأمر, مهما خرجنا باستنتاجات. وشارك في المناقشة الدكتور نصر علام, وزير الري والموارد المائية السابق, والسفير مجدي عامر, مساعد وزير الخارجية والمنسق العام لدول حوض النيل, ورفيق خليل, مستشار وزير الموارد المائية, ود. السيد فليفل, الأستاذ بمعهد البحوث والدراسات الإفريقية, وحلمي شعراوي, المدير السابق لمركز البحوث العربية والإفريقية, ود. أحمد عبد الحليم, عضو المجلس المصري للشئون الخارجية, ود. أيمن عبد الوهاب, خبير المياه والقضايا الإفريقية بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية, وهانئ رسلان, رئيس وحدة دراسات السودان وحوض النيل بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية, ود. محمد سلمان, أستاذ مساعد العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية.