لمقاصد الشريعة دور كبير في سن التشريعات المعاصرة وفي كتابة الدساتير, أو ينبغي أن يكون لها دور; فهي بمثابة الأفق الذي يسعي الفقيه الدستوري أو القانوني بحرية تحته لا يتجاوزه, كما تمثل المعيار الذي تقاس عليه كل مادة سواء في الدستور أو القانون.. أما في المجال الشرعي مجال الفقه والفتوي والاجتهاد فحدث عن وظائفها ولا حرج. وقبل أن أدخل في الحديث عن مقاصد الشريعة في مشروع الدستور أود أن أقرر بعض الأفكار, منها: أولا: أن مقاصد الشريعة الإسلامية بمراتبها المختلفة وأنواعهما المتعددة موجودة بوفرة في مسودة الدستور الجديد. ثانيا: ليس معني وجود المقاصد بوفرة في المسودة أن المواد جميعها متفقة مع الشرع ومقاصده100% بل فيها من المواد ما يحتاج لضبط مثل باب الحقوق والحريات, ومنها ما يحتاج لتعديل كالمواد التي ذكرت عدم جواز العزل في مناصب معينة( مادة4 ومادة198), فمن يملك سلطة التولية يجب قطعا أن يملك سلطة العزل, وغير ذلك من مواد. ثالثا: وجود مواد في المسودة تحتاج لنظر لا يعني تعطيل المشروع, وإنما بتحكيم مقاصد الشريعة نفسها وفقه الواقع وفقه المآلات وفقه المرحلة التي نحياها, كل هذا يحتم علينا أن ننجح هذا المشروع ما دامت المصالح فيه أضعاف المفاسد, وما دامت المواد المتحفظ عليها قليلة, وفي الوقت نفسه فالمشروع ليس قرآنا ولا وحيا من عند الله, وإنما باب التعديل والتغيير مفتوح بطرقه الشرعية التي نص عليها الدستور نفسه. رابعا: أن مسودة الدستور تحتاج لدراسة مفصلة فيما يخص مقاصد الشريعة بما يخرج مجلدا كبيرا أو أكثر وبما يقيم أطروحة دكتوراه أو أطروحات, تتحدث عن أهمية وضع الدساتير والقوانين في ضوء المقاصد الشرعية, وفحص المقاصد العامة التي حققها الدستور, وفحص مقاصد كل باب من أبوابه, وهو ما يسمي المقاصد الخاصة, بل فحص كل مادة من مواد الدستور وما فيها من مقاصد تخص موضوعها, وهو ما يسمي بالمقاصد الجزئية, وبيان الأنواع الأخري من المقاصد في الدستور كذلك, وهذا ليس مكان ذكرها, وتوضيح ما وافق مقاصد الشريعة من الدستور, وذكر ما خالفها, واقتراح البديل الذي يحقق مقاصد الشريعة في المواد المتحفظ عليها. وسوف أقتصر هنا علي إشارات مجرد إشارات بما يسمح به المقام, وتستوعبه المساحة المحددة للنشر إلي ما في الدستور من مفاهيم تأسيسية أو ما يمكن تسميته بالمقاصد العالية, كتحقيق الحرية, وتحقيق العدالة الاجتماعية, وتحقيق الأمن الاجتماعي, وتحقيق الكرامة الإنسانية, وإلي ما فيه من الكليات الضرورية المعروفة في نظرية المقاصد. ففيما يتصل بالمقاصد العالية تطالعنا مسودة الدستور للوهلة الأولي في ديباجتها بأن هذا الدستور جاء تلبية لمقاصد ثورة مجيدة قامت علي هدم الظلم والفساد والاستبداد والقهر والاحتكار, وهي كلها تهدم مباشرة المقاصد العالية, وهذا يوضح ويؤكد إلي أي مدي كان لإهدار مقاصد الشريعة دور مباشر وواضح في قيام الثورات, كما رفعت الديباجة شعار الثورة: عيش- حرية عدالة اجتماعية), وهي كلها مقاصد عالية. فالمادة الثالثة تكفل لغير المسلمين حرية الاعتقاد وحرية ممارسة الشعائر بضوابطها المشار إليها في باب الحقوق والحريات, جاء فيها: مبادئ شرائع المصريين من المسيحيين واليهود المصدر الرئيسي للتشريعات المنظمة لأحوالهم الشخصية, وشئونهم الدينية, واختيار قياداتهم الروحية. وفي المادة السادسة نص علي أن يقوم النظام السياسي علي مبادئ الديمقراطية والشوري, والمواطنة التي تسوي بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات العامة, والتعددية السياسية والحزبية, والتداول السلمي للسلطة, والفصل بين السلطات والتوازن بينها, وسيادة القانون, واحترام حقوق الإنسان وحرياته; وذلك كله علي النحو المبين في الدستور.. ولا يجوز قيام حزب سياسي علي أساس التفرقة بين المواطنين; بسبب الجنس أو الأصل أو الدين. وهي مادة تحقق المساواة والحرية والوحدة الاجتماعية. وفي المادة السابعة نص علي تحقيق الأمن الاجتماعي والوطني, جاء فيها: الحفاظ علي الأمن القومي, والدفاع عن الوطن وحماية أرضه, شرف وواجب مقدس. والتجنيد إجباري; وفقا لما ينظمه القانون. وفي المادة الحادية عشرة تحقيق لحفظ النظام العام في الدولة وهو من المقاصد العالية بلا شك, وقد أفاض فيه الإمام محمد الطاهر بن عاشور, جاء فيها: ترعي الدولة الأخلاق والآداب والنظام العام, والمستوي الرفيع للتربية والقيم الدينية والوطنية, والحقائق العلمية, والثقافة العربية, والتراث التاريخي والحضاري للشعب; وذلك وفقا لما ينظمه القانون. وفي المادة الحادية والثلاثين تقرير لمقصد الكرامة الإنسانية, جاء فيها: الكرامة حق لكل إنسان, يكفل المجتمع والدولة احترامها وحمايتها, ولا يجوز بحال إهانة أي إنسان أو ازدراؤه. أما فيما يتصل بضروريات المقاصد من حفظ للدين والنفس والعقل والمال والنسل والعرض, ففي الدستور مواد كثيرة توجد هذا وتعمل علي البقاء عليه, أو بتعبير إمام المقاصد وباني عمارتها الإمام الشاطبي: من ناحية الوجود ومن ناحية العدم. ففي المادة الثامنة جاء فيها: وتضمن أي الدولة- حماية الأنفس والأعراض والأموال, وتعمل علي تحقيق حد الكفاية لجميع المواطنين; وذلك كله في حدود القانون. وفي المادة الحادية والعشرين والثانية والعشرين تقرير لأهمية المال العام والخاص وحرمته: تكفل الدولة الملكية المشروعة بأنواعها العامة والتعاونية والخاصة والوقف, وتحميها; وفقا لما ينظمه القانون... للأموال العامة حرمة, وحمايتها واجب وطني علي الدولة والمجتمع. وفي المادة الثامنة والثلاثين والحادية والأربعين نجد إشارة لحرمة حياة المواطنين, وحفظ النفس: لحياة المواطنين الخاصة حرمة...لجسد الإنسان حرمة, ويحظر الاتجار بأعضائه. ولا يجوز أن تجري عليه التجارب الطبية أو العلمية بغير رضاه الحر الموثق, ووفقا للأسس المستقرة في العلوم الطبية, وعلي النحو الذي ينظمه القانون هذه إشارات مجرد إشارات كما سبق القول, لم تشبع مقاصد عالية ولا كليات ضرورية; فضلا عن المقاصد الخاصة أو الجزئية, وهذا تقسيم واحد فقط للمقاصد, فما بالنا بالأنواع الأخري المذكورة في مظانها؟ وهذه أيضا إشارات للجوانب الإيجابية دون السلبية في المشروع بالنظر إلي مقاصد الشريعة, والموضوع واسع يحتاج إلي دراسة وافية, وسوف يكون لهذه الدراسة أثر فاعل ودور مقدر في تعديل بعض المواد في مجلس النواب القادم, وفي سن التشريعات والقوانين من ثم التي ستنظم العمل بهذا الدستور.