أثارت القرارات الجمهورية الصادرة بزيادة الضرائب في بعض القطاعات وزيادة أسعار بعض السلع وأسعار الخدمات مناقشات واسعة لصدور هذه القرارات بصورة مفاجئة دون أي تمهيد يساعد علي تقبل المواطنين لها. كما أنها صدرت في توقيت غير مناسب بالمرة لأنها تسبق التصويت علي الدستور الجديد بأيام قليلة, في الوقت الذي تحتاج السلطة رضا المواطنين إذا بها تزعجهم بهذه القرارات التي تضاعف اعباءهم المعيشية بزيادة الاسعار والضرائب. وإذا كان رئيس الجمهورية قد أصدر قراره بتجميد تنفيذ هذه الزيادات وطرحها لحوار مجتمعي يشارك فيه الأحزاب السياسية والنقابات العمالية والمهنية ومنظمات المجتمع المدني وسائر فئات المجتمع, فإن الأثر النفسي الذي خلفته هذه القرارات لايزال قائما والمخاوف التي أثارتها لن تتبدد بل سيظل المواطن تحت وطأة الشعور بأنه سيواجه أياما صعبة بعد انتهاء الاستفتاء علي الدستور الجديد وربما يدفع هذا الوضع كثيرا من المواطنين إلي التصويت بعدم الموافقة علي هذا الدستور. تطرح الطريقة التي صدرت بها القرارات ثم سحبها بعد ذلك قضية مهمة بالنسبة لكيفية إعداد وإصدار القرار الاقتصادي وأهميه أن يعد ويصدر هذا القرار بأسلوب وفي إطار مؤسسي. والمقصود هنا بالقرار الاقتصادي هو تلك القرارات المتعلقة بوضع السياسات الاقتصادية في مجالات عديدة هي الاستثمار والادخار والضرائب والأسعار والأجور والدعم والخصخصة وسعر صرف الجنيه المصري. ولما كانت هذه السياسات الإقتصادية في هذه المجالات الحيوية تؤثر علي معيشة فئات عديدة في المجتمع وتمس مصالح فئات أخري فإنه من الضروري أن يتم التعرف مسبقا علي رأي هذه الفئات وأن يتم إختبار رد فعلها علي مثل هذه القرارات. هل ستتقبلها أم أنها ستعترض عليها, وتشمل هذه الفئات دائرة واسعة من المواطنين تتصل مصالحهم بهذه السياسات مباشرة وتتأثر معيشتهم بأي قرار يتخذ حيالها, مثال ذلك أصحاب الأعمال والعمال ورجال البنوك والتجار والمستهلكون, والمصدرون والمستوردون, وبدون التعرف علي رأي هؤلاء في أي قرار إقتصادي وقياس رد فعلهم عليه فإنه يكون من الغباء إصدارها, وأوضح مثال لذلك في تاريخ مصر الحديث قرار عبدالمنعم القيسوني وزير مالية السادات بزيادة أسعار بعض السلع في يناير1977 فكانت ردود الفعل المباشرة إنتفاضة جماهيرية واسعة يومي18 و19 يناير احيث انتفضت الجماهير بالملايين في مظاهرات عارمة في كل أنحاء البلاد من الاسكندريه الي أسوان. وتواصلت مظاهراتها وعجزت قوات الشرطة عن قمعها واضطرت القوات المسلحة الي النزول الي الشارع بعد اعلان حالة الطوارئ وحظر التجوال فاضطرت الحكومة الي إلغاء الزيادة في الأسعار. ولما كانت هذه الفئات قد نظمت نفسها في مؤسسات تعبر عن مصالحها وتدافع عن أوضاعها فإنه من المهم للغاية أن يكون لها دور في القرارات الاقتصادية بحيث يتم إستطلاع رأي هذه المؤسسات قبل إصدار القرار والتعرف علي ردود أفعال الفئات التي تعبر هذه المؤسسات عنها. وعلي ضوء ذلك يتم صياغة القرارات في الحدود التي لا تستثير غضب الجماهير. من أهم المؤسسات التي ينبغي التعرف علي موقفها ومن القرارات الإقتصادية الجهاز المصرفي والأحزاب السياسية والنقابات العمالية والمهنية وغرف التجارة والصناعة والسياحة ومنظمات المجتمع المدني. فلايعقل أن يصدر قرار بزيادة الفائده علي الودائع أو القروض دون دراسة هذا القرارمع الجهاز المصرفي, ولايعقل أن يصدر قرار بشأن تخفيض قيمة الجنيه المصري دون مناقشة ذلك مع الاقتصاديين ومع العديد من المنظمات النقابية والاحزاب السياسية وغيرها. وإذا أخذنا العمال نموذجا فإنه من المهم أن تناقش الحكومة مع النقابات العمالية كل ما يتعلق بسياسة التنمية وهل نواصل سياسة الاقتصاد الحر أم نأخذ نموذج اقتصاد السوق الإجتماعية, وهناك فارق كبير بين النموذجين فيما يتصل بالعدالة الاجتماعية, كما أنه من المهم أن تناقش مع النقابات العمالية قضايا أخري حيوية مثل العلاقة بين الأسعار والأجور, وعلاقات العمل ودور العمال في الإنتاج ومشاركتهم في الإدارة والأرباح وكذلك نظام الدعم. ويمثل الدعم إحدي القضايا الشائكة التي لا تعرف الحكومة كيف تواجهها حتي الآن ولا يمكن إصدار قرارات مفاجئة بشأنها بدون إجراء مناقشات واسعة مع النقابات العمالية والمؤسسات المجتمعية الأخري لما لها من تأثير علي مستوي المعيشة. ويستطيع أي مراقب أن يلمس بوضوح العديد من الظواهر التي تؤكد أن فئات واسعة من المواطنين لا يمكن أن تتقبل بسهولة أي زيادة في الأعباء المعيشية, وتطرح هذه الحقيقة أهمية ما ندعو إليه من ضرورة مراعاة أن يصدر القرار الإقتصادي في إطار مؤسسي وأن يتم التمهيد له جيدا, وأن يتم التعرف علي ردود الأفعال المتوقعة قبل إصداره ويكفيناهنا لتأكيد هذه الحقيقة أن نعلم أن صندوق النقد الدولي وهو يناقش الحكومة في مسألة القرض الذي سيمنحه لها أجري في نفس الوقت مناقشات مطولة مع النقابات العمالية بما في ذلك النقابات المستقلة التي أوضحت له بجلاء رفضها تخفيض الدعم وتخفيض سعر الجنيه المصري لما له من تأثير علي زيادة تكلفة الواردات وما سوف يترتب علي ذلك من زيادة أسعار السلع التي تدخل في تصنيفها مكونات أجنبية. آن الأوان لترشيد السياسات الحكومية, وفي مقدمة هذا الترشيد أن يصدر القرار الاقتصادي في إطار مؤسسي. فلا نفاجأ مرة أخري بمثل هذه القرارات التي تنغص علي الناس حياتهم واذا كان هذا الأسلوب في دراسة القرار الاقتصادي قبل اصداره والتمهيد له جيدا والتعرف علي ردود الافعال المتوقعة مسبقا, فاننا نرجو أن يشمل هذا الاسلوب كل المجالات وليس المجال الاقتصادي فقط وليت ذلك يتم في مجال ادارة الحكم فلا نفاجأ بصدور اعلان دستوري يتضمن اجراءات استثنائية في الوقت الذي يتوقع المجتمع ويطالب بمزيد من الحقوق والحريات. المزيد من مقالات عبدالغفار شكر