لا شيء يتقدم في إسرائيل الآن علي الجدل الدائر هناك حول احتمالات العودة الوشيكة للمفاوضات مع الفلسطينيين, وهذا الجدل مرشح للتصاعد إذا ما نجح جورج ميتشيل في جولته الحالية في استكمال مهمته الصعبة. وكذلك التغلب علي ما تبقي من الخلافات والاعتراضات المتبادلة بين الطرفين: الفلسطيني والإسرائيلي حتي يكون الرئيس الأمريكي اوباما حينذاك جاهزا لاستقبال كل من أبومازن ونيتانياهو في البيت الأبيض والاعلان عن اطلاق ربما المحاولة الأخيرة, شبه اليائسة, للمفاوضات بينهما والتي يفترض أن تتوج ببشري ولادة الدولة الفلسطينية الديمقراطية المستقلة التي تعيش بأمن وسلام إلي جانب دولة إسرائيل. كانت أوساط عديدة في إسرائيل تستبعد, إلي وقت قريب, نجاح ميتشيل في انتزاع موافقة الطرفين علي العودة للمفاوضات حتي بالصيغة الجديدة غير المباشرة والتي يحلو للإسرائيليين تسميتها بمفاوضات التقارب, كان هذا الأمر يبدو صعبا أو مستبعدا بالنظر إلي تمترس كل طرف حول مطالبه وشروطه, وايضا في ظل التوتر الواضح في العلاقات الإسرائيلية الأمريكية في هذا المجال, ما اعتبره البعض في إسرائيل تطورا خطيرا في موقف أمريكا يحولها إلي طرف في مشكلة هذه المفاوضات وليس كراع أو وسيط لها, ولهذا احتدم الجدل وتباينت الآراء حول الاسباب الحقيقية التي أدت إلي نجاح ميتشيل في انتزاع موافقة الطرفين علي العودة لهذه المفاوضات رغم ان كل طرف لايزال من الناحية العلنية متمسكا بمواقفه ولم يتراجع عنها. فحتي الآن لم يصدر عن نيتانياهو أي تصريح علني يغير فيه مواقفه ويقبل تجميد الاستيطان في القدسالمحتلة, وبالمقابل تمسك أبومازن بشروطه حتي في وجود ميتشيل بالمنطقة, ومن جهة ثالثة لم تشر أي تصريحات رسمية عن تراجع الادارة الأمريكية عن موقفها الذي يدعو إسرائيل إلي تجميد كل اشكال الاستيطان. كانت صحيفة معاريف قدمت تفسيرا لما حدث, عندما كشفت في يوم4/26 الماضي عما اسمته بالاتفاق السري الذي جري التوصل اليه بين مستشار نيتانياهو المحامي اسحق مولخو ودان شابيرو المسئول الكبير في مجلس الأمن القومي الأمريكي والمكلف بملف الشرق الأوسط الذي زار اسرائيل في نفس الفترة التي تواجد فيها المبعوث الأمريكي جورج ميتشيل, ووفقا لما سربته هذه الجريدة فقد اتفق الطرفان علي إبقاء هذه التفاهمات بينهما طي الكتمان حتي لاتتسبب في إثارة المشكلات لنيتانياهو. ويرتكز هذا الاتفاق السري علي السماح لنيتانياهو ان يستمر في التمسك بمواقفه علنا ويقول لا لتجميد الاستيطان في القدس ولكن من الناحية العملية يلتزم بقول نعم لأمريكا, ويترتب علي صيغة نعم هذه مايلي: * ان يستمر البناء فقط في المشاريع التي بدأ العمل بها قبل التوصل إلي هذه التفاهمات. * أن يتم عمليا تجميد النشاط الاستيطاني في الاحياء العربية في القدسالشرقية. * وفي حال نشوب أزمة داخلية ضاغطة علي نيتانياهو فانه يسمح له ببناء بعض الوحدات الرمزية لاسعادة هدوء واستقرار الائتلاف الحكومي. وينظر في إسرائيل بكثير من الجدية إلي هذه التفاهمات السرية أولا, لانه لم يصدر عن الحكومة أي تكذيب لها, وثانيا: لانه كانت سبقتها تصريحات منسوبة للحاخام عوفاديا يوسف الزعيم الديني لحركة شاس11 عضو كنيست وتمثل اليهود المتدينين من أصل شرقي قال فيها: انه يجب عمل كل شيء للتدبر مع الأمريكيين ويجب دفع كل ثمن لترميم العلاقات معها محظور استفزاز امم العالم والممالك.. ووفقا لما هو منسوب اليه فان الحاخام وافق علي اقتراح رئيس دولة اسرائيل بتجميد البناء في الاحياء العربية في القدس عمليا دون الاعلان عن ذلك, وكان ايلي يشاي رئيس كتلة شاس في الكنيست قد نفي من جهته التصريحات المنسوبة الي الحاخام عوفاديا لكنه عاد هو نفسه بعد ايام قليلة والتقي المسئول الأمريكي دان شابيروا واعتذر امامه عن سلوكه عديم الاحساس عندما أعلن عن بناء1600 وحدة سكنية في القدس اثناء زيارة نائب الرئيس الأمريكي بايدن إلي إسرائيل مما تسبب وقتها في اشتعال أزمة في العلاقات بين البلدين, وإذا صحت رواية تصريحات الحاخام فإنها تعزز التقرير حول التفاهمات السرية, لأن نتنياهو يكون وقتها قد تلقي ضوءا اخضر من احد ابرز ممثلي تيار اليمين الديني للالتزام امام امريكا بالتجميد العملي الصامت للبناء في الاحياء العربية بالقدس حتي يتسني بذلك اقناع الفلسطينيين بالموافقة علي بدء المفاوضات غير المباشرة. وعلي الجبهة المقابلة, يبدو ان ميتشيل تمكن من انتزاع موافقة أبومازن علي العودة للمفاوضات بعد أن اطلعه علي فحوي هذه التفاهمات السرية وبعد أن تعهد ايضا بأن تطرح علي جدول أعمال هذه المفاوضات كل قضايا الوضع النهائي الخمس: الحدود والقدس واللاجئون والمستوطنات والمياه. ومن المفهوم بالطبع أن الضغط الأمريكي لم يقع فقط علي الجانب الإسرائيلي, فقد أظهرت التطورات اللاحقة علي زيارة ميتشيل انه انتزع من أبومازن تعهدا بعدم الاعلان عن اقامة الدولة الفلسطينية المستقلة من طرف واحد, وكان أبومازن بالفعل قد أعلن في مقابلة بثتها القناة الثانية للتليفزيون الإسرائيلي يوم16 ابريل الماضي بعد يوم من لقائه بميتشيل انه يعارض اعلان قيام الدولة الفلسطينية من طرف واحد, وقد أبرزت التعليقات الإسرائيلية تعارض تصريحات أبومازن هذه مع التصريحات التي كان اعلنها قبل قليل رئيس الوزراء الفلسطيني الدكتور سلام فياض التي تعهد فيها باستكمال بناء كل مؤسسات الدولة والاعلان عن اقامتها من طرف واحد في اغسطس من العام القادم2011. وبالعودة إلي سياق مهمة ميتشيل لاستئناف المفاوضات, فرغم اجواء الانفراج التي صاحبت الزيارة فانه لا يوجد مع ذلك ما يستوجب القول بان الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني يعولان كثيرا علي المفاوضات سواء أكانت غير مباشرة أو مباشرة في التوصل إلي حل أو تسوية نهائية للصراع التاريخي الممتد بينهما, ويبدو أن الطرفين وافقا علي صيغة ميتشيل لتفادي المزيد من التوتر في العلاقة مع الولاياتالمتحدة وليس عن قناعة بخيار المفاوضات نفسه. وتأكيدا لهذا الاعتبار كان الرئيس أبو مازن دعا مؤخرا إلي شق مسار مواز للمفاوضات يخصص لبدء حوار شامل مع كل القوي السياسية في إسرائيل وحتي مع الجاليات اليهودية بالخارج خاصة مع اللوبي الصهيوني في أمريكا, بهدف تشكيل اوسع جبهة من الاغلبية التي تؤمن بالسلام في الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني العربي للضغط من أجل تجسيد حل الدولتين, وقد لوحظ أن دعوة أبومازن هذه قوبلت بردود فعل فاترة, ليس فقط من داخل إسرائيل وانما بالاساس في الأوساط السياسية الفلسطينية التي تعاني اصلا من استمرار الانقسام. وقد يبدو الوضع الإسرائيلي أكثر تماسكا أو اقل انقساما لكن هذا ما يطفو فقط علي السطح كالاسماك الميتة, لأن الصورة في العمق تبدو مختلفة, ولا تكاد تخطيء العين في رؤية نذر الاستنفار التي تتجمع في السماء السياسية لإسرائيل, وسنري عند بدء المفاوضات وتقدمها ما إذا كان هذا الأمر مجرد سحابة صيف أم أنه سيتحول إلي تسونامي سياسي يعصف بالوضع القائم ويخلط الأوراق ويعيدنا إلي المربع صفر.