يتساءل الجميع عن موقف رجال الدين والدعاة والأئمة والوعاظ من ممارسة العمل السياسي في هذه الأوقات الحرجة التي تمر بها الأمة؟ أم انه ينبغي لعالم الدين أن يبعد نفسه عن الحياة العامة والاهتمام بأمور الناس سواء كانت سياسية أو اجتماعية ويبدأ رحلة الانفصال عن المجتمع الذي هو جزء منه ؟ ونحن بدورنا نتساءل: ما هو الطريق الصحيح الذي يجب أن يسلكه الداعية؟! .في البداية يوضح الدكتور علي جمعة, مفتي الجمهورية, موقف رجل الدين والداعية من السياسة قائلا: إن عالم الدين ينبغي أن يظل بعيدا عن السياسة بمعناها الحزبي الضيق, وأن يترك الاختيار للشعب, فلابد أن يبقي عالم الدين ملكا لكل الأطراف, وأن يضطلع بدوره في توعية الجماهير وقيادتها نحو ممارسات صحيحة, تتفق والقيم العليا, لتحقيق مصالح الفرد والمجتمع, وفي هذه المرحلة يجب علي العلماء والمفكرين السعي جاهدين في تحقيق وحدة الصف الإسلامي التي تعتبر فرضا من فروض الدين, وأساسا من أساساته وخاصة في هذه الظروف التي تمر بها الأمة حاليا, حيث يتربص أعداؤها بها ويحاولون فرض روح الشحناء والتفرقة والنعرات الطائفية بين أبناء الدين الواحد, وذلك من خلال الحض علي تعاليم الإسلام السمح واتباع أسلوب الحكمة والموعظة الحسنة في الدعوة إلي الله وكيفية العيش مع الآخر وتقبله واحترام عقائده. أما تدخل رجل الدين في السياسة, فالسياسة علي وجهين ولنا في كل وجه موقف: أولا: يتدخل, في مجال رعاية شئون الأمة في الداخل والخارج, فما جاء الدين إلا لرعاية شأن الإنسان فردا وجماعة, دولة وأمة, حكومات وشعوبا. ثانيا: لا يتدخل, أي لا نتدخل في السياسة الحزبية التنافسية والصراعية التي قوامها البرامج التنافسية والخلافات, ونحترم كل وجهة نظر, لأنها من الرأي, والرأي مشترك كما قال سيدنا عمر بن الخطاب, ونؤكد علي الجميع ضرورة الوعي بما يجري حولنا, والسعي وفق ما تقتضيه مصلحة الوطن والأمة لا المصالح الفئوية ولا الحزبية ولا الشخصية. ليس في المحراب فقط ويوضح الدكتور عبد الفتاح إدريس أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر انه لا ينبغي لعالم الدين ان يبعد نفسه عن الحياة العامة والاهتمام بأمور الناس سواء كانت سياسية او اجتماعية او اقتصادية لقول رسول الله صلي الله عليه وسلممن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم,مشيرا إلي أن امر المسلمين قد يتعلق بالسياسة كما يتعلق بغيرها من,ولأجل هذا فان الأمور السياسية يجب علي العالم بأمور الدين أن يحيط بها علما ويعلم مداخلها ومخارجها وما يصلحها وما يفسدها باعتبار ان هذه الأمور التي يتحقق بها صلاح حال المجتمع. وأكد أن سلف الأمة كان مهتما بأمور السياسة اهتماما كبيرا,ولهذا تركوا تراثا ضخما مملوءا ينظم الحياة السياسية, فنجد منهم عالما كبيرا مثل الإمام الماوردي الذي ألف في مجال السياسة الكثير منها الأحكام السلطانية وقوانين الوزراء ونصيحة الملوك وغير ذلك من كتب الماوردي التي تنيف علي خمسة او ستة كتب في هذا المجال,كما ان ابي يعلي الحنبلي الف مؤلفات في علوم السياسة, وغيرها الكثير الذين ألفوا وتركوا تراثا ضخما تتعلق بأمور السياسة,وهذا يعطي انطباعا واضحا بان رجل الدين لم يكن مكانه في مقام المحراب فقط,وانما دخلوا معترك الحياة السياسية من اوسع ابوابها. وشدد الدكتور عبد الفتاح إدريس علي انه لا ينبغي لعالم الدين ان يبتعد عن المشهد السياسي لأن الساحة مملوءة الآن بأصحاب المصالح الخاصة الذين لا يريدون الخير للبلاد والعباد,وينبغي ان يكون في مواجهة هؤلاء المفسدين علماء مصلحون يواجهون فساد هذه الأفكار باعتبار ان هؤلاء العلماء تجردوا من أهواء الدنيا واخلصوا الدين لله تعالي وهم مصابيح الهداية والقدوة ويبتغون بنصائحهم مصلحة المجتمع,ولهذا يجب ان يشاركوا في الحياة السياسية ولا تغيب مجالس الساسة عنهم,مؤكدا انه ليس صحيحا ان عالم الدين اذا انشغل بأمور السياسة انصرف عن الدعوة لأن انشغاله بالسياسة هو الدعوة الي صلاح المجتمع واعتدال مسيرة الحياة. الحيادية والموضوعية ويتفق مع هذا الرأي الدكتور علوي أمين خليل أستاذ الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر,مؤكدا ان عالم الدين رجل شامل عليه ان يعرف ما يدور حوله في مجتمعه لأنه جزء منه سواء في الاقتصاد او السياسة أو الإعلام ويكون له رأي فيه إذا طلب منه ذلك,بشرط ان تكون عنده حصافة,ولا ينتمي إلي فصيل بعينه لأن الحكام يحكمون علي العامة وان العلماء يحكمون علي الحكام,كما انه علي رجل الدين الابتعاد عن شخصنة القضايا والأمور,وعليه أيضا ان يعطي كل شئ ولا يأخذ شيئا لنفسه,لأن العالم يعيش لمجتمعه,وإذا نصح نصح لله ولصالح المجتمع,ولا يسمع من الحاكم أمرا ينكره الشرع. وأشار إلي أن الغرض والهدف من مشاركة العالم والداعية في العمل السياسي هو إصلاح المجتمع وتنوير الناس وتحفيزهم نحو التقدم علي بصيرة ووعي وفهم, وألا يتدخل رجل الدين في فرض رأيه علي الناس,بل عليه ان يترك لهم حرية اختيار ما يرونه صالحا لهم ولدينهم ودنياهم. الثقافة السياسية من جانبه يشير الدكتور عطية مصطفي أستاذ الثقافة الإسلامية بكلية الدعوة جامعة الأزهر إلي انه لا يمكن قبول أن يكتفي الداعية بدعوة الناس إلي الفضيلة والأخلاق والتمسك بالدين ثم يكون معزولا عزلا تاما عن الأحداث السياسية, بحيث لا يبدي رأيه فيها ولا يتضح موقفه منها, فلا المنطق ولا الناس سيقبلون ذلك, مؤكدا ضرورة ان يكون العالم والداعية ذا خلفية ثقافية سياسية حتي لا يكون تناوله للأحداث السياسية سطحيا إلي حد كبير; تجعل رأيه في اي حدث سياسي لا يصمد أمام نقاش سياسي أو فقهي جاد. وشدد علي انه لا بد أن تكون للداعية ثقافة سياسية معتبرة, تؤهله لأن يلم بنظريات السياسة ومفاهيمها العامة وكيفية ممارسة السياسيين عملهم, بحيث عندما يبدي آراءه, أو يدعو الناس إلي عمل, يكون مستندا إلي خلفية سياسية علمية ومتوازنة وذات مصداقية أمام الناس,مشيرا الي ان حديث الدعاة في المساجد اصبح أمرا شائكا يثير حفيظة الناس ويثير بلبلة أحيانا ويثير مشكلات أحيانا أخري داخل المسجد, بما يعرض المسجد لأن يكون مكانا للتفرقة لا للتجميع,في وقت نحن أشد الحاجة فيه الي الاجتماع علي كلمة تجمع ولا تفرق حتي تخرج الأمة من أزمتها بأمان وسلام. وأوضح انه لابد ان يكون خطاب الداعية مشتملا علي المصداقية وهي تأتي بالتوازن في تناول الأمور والموضوعية في الرأي, بما يضمن ثقة الناس في آراء الداعية, وانتفاء شبهة استغلال الدين في مصلحة السياسة, بل تنوير السياسة بتعاليم الدين,كما يشتمل الخطاب علي الحديث عن القيم العامة التي يحتاجها الناس والتي تتوازي مع الأحداث السياسية, مثل الحديث عن الصبر والتعاون من أجل إصلاح البلاد وتحسين الأحوال, ودفع الناس للعمل, والقواعد الأخلاقية في أثناء التنافس في العملية الانتخابية, ونبذ الخلافات في هذه المرحلة الصعبة, ومواجهة الفساد في كل مكان, ودفع الظلم,كما يجب ان يتكلم عن الأحداث السياسية بصورة موضوعية لا يظهر فيها انحيازا لتيار معين, وربط الحديث بالقيم الإسلامية وأحداث السيرة. كما يجب علي العالم والداعية أن يطرق عالم السياسة, ويدخله بخطوات متدرجة, وذلك عبر الاشتراك في دورات سياسية تضع المفاهيم العامة والنظريات الأساسية أمام عينيه,وان يكثر من القراءة الحرة لأعلام المفكرين من المسلمين الذين لهم مؤلفات في العلوم السياسية,بالإضافة الي متابعة التحليلات السياسية للأحداث الجارية أولا بأول للوقوف علي مستجدات الأمور في المجتمع الذي هو جزء منه.