وظائف وزارة الأوقاف 2025| تعرف على الشروط وطريقة التقديم    استكمال أوراق الشهادات المعادلة العربية بجامعة بنها الأهلية (للمتقدمين إلكترونيًا فقط)    وزير العدل من البحيرة: نعمل علي تطوير ورفع كفاءة دور العدالة    80 قطارًا.. مواعيد انطلاق الرحلات من محطة سكك حديد بنها إلى المحافظات الثلاثاء 19 أغسطس    ضبط قضايا إتجار بالنقد الأجنبي بقيمة 9 ملايين جنيه خلال 24 ساعة    الداخلية تؤسس مركز نموذجي للأحوال المدنية فى «ميفيدا» بالقاهرة الجديدة    لماذا تسعى نادين أيوب إلى تمثيل فلسطين في مسابقة ملكة جمال الكون؟    علامات خطيرة وراء اضطرابات حرارة الجسم.. تعرف عليها    «التأمين الشامل».. تشغيل عيادة علاج طبيعي للأطفال بمركز طب أسرة العوامية بالأقصر    وزيرا الإسكان والسياحة ومحافظ الجيزة يتابعون مخطط تطوير منطقة مطار سفنكس وهرم سقارة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 19-8-2025 في محافظة قنا    5 قرارات جمهورية مهمة وتكليفات حاسمة من السيسي لمحافظ البنك المركزي    بحضور مدبولي، الإعلان عن توقيع 12 اتفاقية مع اليابان في قطاعات استراتيجية    تراجع سعر اليورو اليوم الثلاثاء 19 أغسطس 2025 أمام الجنيه بالبنوك المصرية    ارتفاع أسعار الذهب اليوم الثلاثاء 19 أغسطس في بداية التعاملات    وزيرة التنمية المحلية: الانتهاء من التأثيث النمطي ل332 مجمع خدمات حكومية    أمن الجيزة يلقى القبض على قاتل ترزى الوراق    وزير الخارجية يعرب لنظيره الهولندي عن الاستياء البالغ من حادث الاعتداء على مبنى السفارة المصرية    سقوط 21 شهيدا بنيران جيش الاحتلال في عدة مناطق بقطاع غزة منذ فجر اليوم    الدكتور جمال شقرة: «من النيل إلى الفرات» شعار دعائي للحركة الصهيونية    رئيس الوزراء يلتقى وزير الدولة للاقتصاد والتجارة والصناعة الياباني    الأمم المتحدة ومنظمات غير حكومية: تكثيف الهجوم على غزة سيؤدى لأثر إنسانى مروع    الأهلي يواصل استعداداته لمواجهة غزل المحلة    بدء تشغيل عيادة العلاج الطبيعى للأطفال بمركز طب أسرة العوامية بالأقصر    وزارة الصحة: "100 يوم صحة" قدّمت 52.9 مليون خدمة مجانية خلال 34 يوما    مركز الأبحاث الإكلينيكية بالمعهد القومى للأورام يحصل على التسجيل والاعتماد    باحث: اتفاق ألاسكا أنهى ملف تبادل الأراضي بين روسيا وأوكرانيا    يعرض قريبا، تعرف على قصة وأبطال مسلسل أزمة ثقة    نجلة طلعت زكريا تكشف سر عن أحمد فهمي تجاه والدها الراحل    وزير الأوقاف يكلف السيد عبد البارى برئاسة القطاع الديني    موعد مباراة المصري وبيراميدز في الدوري الممتاز والقناة الناقلة    بحثاً عن جثمان صغير.. رفع عبّارة نيلية بطهطا ابتلعه النيل أثناء التنزه بسوهاج "صور"    ضبط ترسانة أسلحة بيضاء ومواد مخدرة متنوعة بمطار القاهرة الدولي (صور)    "كلمناه".. عماد النحاس يوضح سبب تغيير مواعيد تدريب النادي الأهلي    أسعار اللحوم الحمراء اليوم الثلاثاء 19 أغسطس    ياسمين صبري ناعية تيمور تيمور: «صبر أهله وأحبابه»    وزير الزراعة: نستهدف 12 مليار دولار صادرات زراعية هذا العام.. وإضافة 3 ملايين فدان خلال 3 سنوات    المحافظات تبدأ حصر «الإيجار القديم» لبناء سكن بديل    جميع ما أعلنته وزارة التعليم عن البكالوريا المصرية الجديدة ومقارنتها بالثانوية العامة (المواد والمسارات وفرص الامتحان)    تفاصيل إصابة علي معلول مع الصفاقسي    طارق العشري يتحدث بصراحة عن انطلاقة الدوري ويؤكد: الأهلى الأقرب لحصد الدرع.. وتجربة الزمالك ستنجح في المستقبل    «زي النهارده».. وفاة الكاتب محفوظ عبد الرحمن 19 أغسطس 2017    هناك الكثير من المهام والأمور في بالك.. حظ برج العقرب اليوم 19 أغسطس    "أقنعني وتنمر".. 5 صور لمواقف رومانسية بين محمد النني وزوجته الثانية    أبرزها 10 أطنان مخلل.. ضبط أغذية منتهية الصلاحية ومجهولة المصدر ببني سويف    رئيس وزراء السودان يطالب الأمم المتحدة بفتح ممرات إنسانية في الفاشر    فرصة لطلاب المرحلة الثالثة.. تعرف الجامعات والمعاهد في معرض أخبار اليوم التعليمي    رسميًا.. 24 توجيهًا عاجلًا من التعليم لضبط المدارس قبل انطلاق العام الدراسي الجديد 20252026    رئيس وزراء اليابان شيجيرو إيشيبا يكتب ل«المصرى اليوم» .. المشاركة معًا في خلق مستقبل أكثر إشراقًا لإفريقيا: عصر جديد من الشراكة فى مؤتمر «تيكاد 9»    محافظ سوهاج يُقرر خفض تنسيق القبول بالثانوي العام إلى 233 درجة    مساعد الرئيس الروسي يكشف تفاصيل مكالمة بوتين وترامب    حقيقة إصابة أشرف داري في مران الأهلي وموقف ياسين مرعي من مباراة غزل المحلة    سعر طن الحديد والاسمنت بسوق مواد البناء اليوم الثلاثاء 19 أغسطس 2025    ضياء السيد: الأهلي سيواجه أزمة أمام بيراميدز.. والتسجيل سيدين محمد معروف    ما علاج الفتور في العبادة؟.. أمين الفتوى يجيب    أمين الفتوى: تركة المتوفاة تُوزع شرعًا حتى لو رفضت ذلك في حياتها    هل يجوز قضاء الصيام عن الميت؟.. أمين الفتوى يجيب    هل المولد النبوي الشريف عطلة رسمية في السعودية؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مذكرات إريك رولو أشهر صحفي ودبلوماسي فرنسي
الصراع مع أمريكا والتوجه شرقا
نشر في الأهرام اليومي يوم 05 - 12 - 2012

في الحلقة الاولي بدأ إريك رولو الحديث عن استقبال عبد الناصر له‏..‏ تحدث عن السر وراء ذلك ولماذا خصه هو دون الصحفيين الغربيين بهذه المقابلة‏..‏ يكتب رولو التفاصيل الدقيقة لهذا الحوار وأسئلة عبد الناصر له واهتمامه بحياته الشخصية وكيف حصل علي مسكن بالقرض في باريس! ثم يكشف سر المقابلة! أراد عبدالناصر أن يبلغ العالم بخبر الإفراج عن المعتقلين السياسيين.. ثم يعرج رولو في الفصل الاول الي قصة الوحدة مع سوريا والي مشروع الوحدة مع بغداد.. وكيف فتحت مصر أبوابها للاجئين السياسيين من كافة أنحاء الوطن العربي وتحول مقهي' نايت أند داي' في فندق سميراميس القديم الي مقر لفؤاد الركابي أحد المنشقين عن حزب البعث وجلال طالباني وزعيم المعارضة المغربية المهدي بن بركة مع الشاعر ورسام
لقد أخذت بداية بما كان من تبسط و ترحاب لدي استقبال عبد الناصر لي. كان يرتدي بنطالا من الكتان و قميصا قطنيا خفيفا مفتوح الياقة, و هو يستقبلنا أنا و روزي زوجتي, في بيته المتواضع نسبيا, الذي كان يقطنه في ضاحية منشية البكري القاهرية حين كان بعد ضابطا صغيرا, و هي الدار التي كان يفضلها علي القصور الموضوعة تحت تصرفه. كانت غرفة الاستقبال التي تم بها اللقاء مؤثثة وفقا للذوق العام للبرجوازية المتوسطة, بأرائك و مقاعد مقلدة تبعا لطراز لويس الخامس عشر, لكنها لم تكن لتعكس أبدا مكانة رئيس جمهورية. وازدانت الجدران المطلية باللون الرمادي المخضر بصور تحمل إهداءات من زعماء حركة العالم الثالث: تيتو, و نهرو, و شوين لاي, و نكروما, و سوكارنو.
و لم تكن الغرفة مكيفة, بل كان ثمة مروحة تلطف من حرارة حزيران القاهري في ذلك اليوم. و استمر حوارنا- الذي دار بالإنجليزية تارة و بالعربية المصرية الدارجة أطوارا أخري- ما يربو علي الساعتين, في حضور هيكل, الذي لم يتدخل في أي لحظة في الحوار, كما تقتضي قواعد احترام الرئيس.
بدا مضيفنا طويل القامة, قوي البنية كأنه ملاكم, مع تقوس طفيف في الظهر, و نظرة عين ثاقبة لكنها طيبة. و قد فاتحنا بالحديث أولا, لاشك بنية بث الراحة في نفوسنا. وسرعان ما ذاب الجليد بيننا: فها هو يشكو لنا معاناته من الوحدة منذ استقرت أسرته المكونة من زوجته و أولاده في الأسكندرية لقضاء العطلة الصيفية. فبدت له داره, التي لم نلمح بها أي معاونين أو خدم,( باستثناء الخادم الذي قدم لنا عصير الليمون و القهوة التركية), موحشة للغاية. لكن لحسن الحظ- كما أردف- أنه يعمل كثيرا في المكتب الذي هيأه لنفسه في شقته, الأمر الذي يروق له كثيرا; و هو أيضا يجتهد رغم كل شواغله في ممارسة رياضتيه المفضلتين, السباحة و التنس. فهل من هواية تشغل الرئيس؟ لن يتمادي عبد الناصر في البوح بما يعرفه عنه خلطاؤه من ميل لأفلام رعاة البقر الأمريكية و شغف بلعبة الشطرنج, التي يمارسها قدر المستطاع مع المشير عبد الحكيم عامر, أقرب أصدقائه إلي نفسه من بين مجموعة الضباط الأحرار الذين استولوا علي الحكم في يوليو( تموز).1952 سيعزله عبد الناصر فيما بعد, في الظروف التي سأذكرها في الفصل الثاني عشر. سيعزله راغما متألما علي أثر الهزيمة العسكرية في1967, و التي ألقي بتبعتها علي عامر الذي كان في ذلك الوقت رئيسا لأركان الحرب.
و لقد أظهر عبد الناصر فضولا لا حد له و قدرة علي الإصغاء خارقة للعادة. وقبل أن أتمكن من طرح السؤال الأول في أسئلة الحوار الذي كنت أعد لنشره في صحيفة' لوموند', كان هو قد سألني باستفاضة عن حياتي المهنية, و عن نظام عمل وسائل الإعلام الفرنسية, و عن الحريات التي تتمتع بها, بل إنه قد فاجأني بسؤالي عن حياتي الشخصية. كم من الأطفال رزقنا؟ و كيف هو مسكننا؟ و بأية وسيلة تأتي لي شراء الشقة التي نقطنها في قلب مدينة باريس بالتقسيط؟ و ما هي الفوائد التي يتضمنها القرض المصرفي؟ و بأية نسبة يتسبب سداد الأقساط في إرهاق ميزانيتنا؟ و قد حملته أمارات الدهشة البادية علي وجهي علي الاعتذار عن تطفله, مفسرا مسلكه برغبته في معرفة إن كان بإمكانه تزويد المصريين بمساكن منخفضة الكلفة بحيث يتسني لهم امتلاكها; فهو يتساءل ليعرف إن كان مثيل ذلك المشروع ليس طوباويا في بلد نام لا يكاد يفي دخل الغالبية العظمي للمواطنين فيه بالكفاف من أسباب العيش.
و كما لو كان مكتبه لم يزوده بكافة المعلومات المتعلقة بشخصي, راح يسألني مجددا عن أصولي, و عن حياتي في مصر في سنوات شبابي, لكنه حرص علي تفادي الخوض في الأسباب التي دفعت بي إلي المنفي. هكذا تبين أننا' جيران' نظرا لكون حي مصر الجديدة الذي ولدت فيه يقع علي مقربة من بيته في منشية البكري حيث جري بيننا اللقاء. و كان من الواضح أنه قد انطلق في عملية استمالة لا يعلم سر صنعتها سوي خبراء الاتصال.
وبدا لي الجو العام مناسبا لطرح السؤال الأكثر حساسية بين أسئلتي, و المتعلق بالمعتقلات. و كان هو يتوقعه, علي حد ما بدا من سرعة في إيراده الرد. إذ صرح بهدوء قائلا:' قررت الإفراج عن جميع السجناء السياسيين قبل نهاية هذا العام'. و سيحتل هذا النبأ, الذي لم يكن متوقعا بالمرة, عناوين الصحافة العالمية, و صحيفة' لوموند' بطبيعة الحال. كما بثت الخبر جميع الإذاعات, باستثناء الإذاعة المصرية علي نحو أثار الاستغراب. و لم يحل ذلك دون وصول الخبر إلي مئات المساجين, بفضل المحطات الأجنبية التي كانوا يستمعون إليها بانتظام. هكذا, ضجت المعتقلات بالفرحة, وعم الابتهاج الصاخب احتفاء بالحدث. وهبت رياح التفاؤل علي المجتمع المدني, المنتمي معظمه إلي اليسار. أما النتيجة العجيبة المترتبة علي ذلك, فهي أنني صرت بالنسبة للمعتقلين السياسيين' البطل' الذي أفلح في انتزاع الوعد من الرئيس. و كانت الهوة الفاصلة بين الرئيس المصري و بين الشيوعيين تبدو مستحيلة العبور, علي الأقل في تلك الفترة. وكان غالبيتهم قد أدانوا أساسا الانقلاب الناصري في يوليو1952, ثم أدانوا بعد ذلك بقليل تصفية عاملين شيوعيين حوكما صوريا و نفذ فيهما حكم الاعدام. بعد ذلك بعامين, اصطف الشيوعيون بجانب اللواء محمد نجيب مطالبين بعودة الجيش إلي ثكناته. فتم اعتقال العديد منهم, أما خالد محيي الدين, و هو أحد الضباط من ذوي الميول الشيوعية داخل مجلس قيادة الثورة, و من المقربين من عبد الناصر, فقد تم إبعاده إلي سويسرا. و قد انفجرت موجة عاتية و غير مسبوقة من الاعتقالات في عام1958, حين عبر الماركسيون عن اختلافهم مع سياسة عبد الناصر المنادية بالوحدة العربية. إذ عابوا عليه فرضه وحدة مصطنعة, تقوم علي سيادة حزب أوحد.
و قد قامت الوحدة السورية المصرية تحت اسم الجمهورية العربية المتحدة في فبراير( شباط)1958, بناء علي إلحاح قادة دمشق, ووفقا للشروط التي أملاها الرئيس عبد الناصر: فتم حل جميع التنظيمات السياسية لصالح الحزب الواحد, و تم نقل النظامين السياسي و الاقتصادي الساريين في وادي النيل حرفيا إلي سوريا, بغض النظر عن بنياتها, و عاداتها, و الظروف المحلية الراهنة. و علي الرغم من كل شيء, أثار اندماج البلدين في البداية حماسة عارمة بين السوريين و المصريين, كما أشاع البهجة في مجمل العالم العربي. و رحبت وسائل الإعلام ببزوغ فجر جديد ل' أمة' ستمتد حدودها من الخليج الفارسي حتي المحيط الأطلسي.
لذلك, بدا لي إعلان الافراج عن السجناء السياسيين, بعد ذلك بخمسة أعوام, و بلا إبداء أي أسباب, محيرا للغاية. فلماذا اتخذ هذا القرار, و لماذا جاء الإعلان عنه لصحفي أجنبي زائر؟ لقد بدا جليا أن عبد الناصر كان راغبا أساسا في مخاطبة الرأي العام الغربي الذي لم تكن أكثريته تأنس إليه بالمرة. و كان عليه تدعيم نظامه المتزعزع إثر انهيار الوحدة السورية المصرية قبل عامين.
وإذ كان الرئيس عبد الناصر غير راض عن صياغة مذهب عصي علي التنفيذ, علي الأقل في المستقبل المنظور, فقد قاوم الضغوط التي مورست عليه لإبرام الوحدة بين مصر و اليمن, التي اجتاحها للدفاع عن الجمهورية التي قامت في نهاية عام1962, ضد القبائل المأجورة من قبل الملك المخلوع و المملكة العربية السعودية. و بالمثل, لم يرحب عبد الناصر بفكرة الوحدة بين مصر و الجزائر. كما أدان شوفينية قادة بغداد الجدد, الذين رفضوا الاعتراف بشرعية التطلعات الكردية( مسلمين من غير العرب) المطالبة بالحكم الذاتي داخل الدولة العراقية. و بعد ذلك بأعوام, لن يلبي عبد الناصر الطلب الملحاح الذي رفعه العقيد معمر القذافي, حاكم ليبيا المندفع, لإعلان الاتحاد بين البلدين.
كان من الواضح أن الرئيس عبد الناصر يسعي لتهيئة ساحة خلفية صديقة لبلاده, تقبل استيعاب فائض السكان المصريين و منتجاتهم الزائدة عن الحاجة. كما كان يهدف إلي ممارسة ضغوط علي الدول العربية النفطية, المصنفة ك'ملكيات رجعية', لإجبارها علي تخصيص جزء من دخلها لتنمية' الشعوب الشقيقة' المفتقرة إلي الموارد الطبيعية, و علي رأسها مصر بطبيعة الحال. أما السطوة السياسية التي يزمع ممارستها علي الجماهير العربية, فهو يسعي من خلالها إلي إحداث تضامن كامل يرمي أساسا إلي تقوية الدور الذي تلعبه مصر علي الساحة الدولية.
و قد كان تجسد تلك السياسة ظاهرا في مقهي' نايت آند داي'(NightandDay), بفندق سميراميس المطل علي شاطيء النيل. و نظرا لبقائه مفتوحا طوال اليوم كما يشير اسمه, فقد كان يعد ملتقي اللاجئين السياسيين العرب, ممن كانوا من قبل أو سيصبحون من بعد في فئة الحكام, حيث كانوا يخالطون المفكرين المصريين من كافة الاتجاهات بلا تمييز. كان جميع هؤلاء المنفيين تقريبا' ناصريين', إذ كان تقديرهم أن الوحدة العربية, أي كان شكلها و محتواها, خليقة بتحقيق تطلعات كل منهم علي حدة.
كانوا جميعا مدينين للريس, الذي منحهم اللجوء السياسي, وكثيرا ما أمدهم بأسباب تلبية احتياجاتهم. ومن جانبه, كان عبدالناصر يضمن بذلك لنفسه حلفاء محتملين في الوطن العربي.
وكنت أنا أرتاد تلك اللقاءات يوميا تقريبا, وأشارك في النقاشات المتصلة حتي ساعات اليل المتأخرة. كان الصحفي يجد فيها مبتغاه. فبحسبه أن ينصت إلي الحاضرين و هم يتنادون فيما بينهم إذ هم جالسون إلي طاولاتهم المتجاورة, ليتعرف علي الوضع في مختلف بلدان المنطقة. بل إنني كثيرا ما كنت ألتقط من تلك الأحاديث معلومات مستجدة تتناقلها حركات معارضة, و ينشرها ممثلوها في القاهرة.
وأما جلال طالباني, الذي كان وقتذاك موظفا عسكريا لدي زعيم الانتفاضة الكردية الملا مصطفي البرزاني, فلم يكن يقسم إلا بحياة عبد الناصر الذي, إذ أولاه شرف استقباله, قد أكد له دعمه لكفاح الشعب الكردي من أجل الحصول علي الحكم الذاتي. وكان الموقف الذي اتخذه الريس جريئا في زمان كانت الوحدة العربية تختلط فيه بالشوفينية بمنتهي السهولة. ولقد ربطتني صداقة بجلال الذي عاودت لقاءه مرارا في أروقة المقاومة الكردية في العراق, وكذلك في بغداد, وفي بيروت, وفي طهران, وفي أنقرة, وفي باريس... كان لحديثه جاذبية, وفي حسه الفكاهي عوض عن روحه المتهكمة, فكان يغير بمنتهي البساطة من ولاءاته, وأعدائه, و حلفائه, بل وأيديولوجيته( فقد كان ماويا وغير ذلك), حتي إنه وصل به الأمر إلي التفاهم مع صدام حسين. كان تكتيكه يتغير تبعا للظروف, أما استراتيجيته فظلت راسخة لا تتغير: إذ ظل وفيا إلي تطلعات شعبه. و قد وصل إلي قمة مشواره المهني لحظة انتخابه رئيسا للجمهورية العراقية بعد اسقاط صدام حسين في.2003 و قد كان وفاؤه للتحالف مع الولايات المتحدة, حامية الأكراد قبل و بعد غزوها العراق, وفاء نموذجيا.
شخصية أخري لافتة في لقاءات مقهي' نايت آند داي', هي شخصية الشاعر و رسام الكاريكاتير صلاح جاهين, نجم صحيفة الأهرام اليومية, الذي كان يشيع البهجة فينا, إذ كان يلقي علينا النكات الساخرة بحذر من رموز النظام. كان قصيرا, سمينا, خفيف الشعر, طفولي الوجه, و كانت له شجاعة تضاهي شجاعة آرائه. فلكي يرسم صورة مصاحبة لمقال يشير إلي محدودية الحريات المتاحة في مجال التعليم العالي, نشر جاهين في الأهرام رسما لعقل مغلق بقفل. و لما كنت علي علم بشخصيته البعيدة كل البعد عن العنصرية, فلقد ألمحت إليه ذات مرة أنه قد يتهم بمعاداة السامية لنشره رسوما كاريكاتورية تظهر الاسرائيلي دوما بأنف معقوف. و إذ تفاجأ لذلك, و هو الذي لا يعلم شيئا عن أبعاد معاداة اليهودية في الغرب, فقد عدل تماما, اعتبارا من اليوم التالي, من تصويره لملامح المواطن في الدولة العبرية.
أما زعيم المعارضة المغربية, المهدي بن بركة, فكان ينضم إلينا أحيانا في مقهي' نايت آند داي', فيصغي باهتمام إلي كل ما يقال, و يحدثنا عن الوضع في بلاده أقل مما يحدثنا عن مشروعه الخاص بمؤتمر' القارات الثلاثة'( أفريقيا, و آسيا, و أمريكا اللاتينية) الرامي إلي الجمع بين شعوب العالم الثالث في جبهة مضادة للإمبريالية. و هو لم يكن يخفي تعاطفه مع البعثيين رغم علاقاته الطيبة مع منافسيهم الناصريين, كما كان مؤيدا للحكومة في بغداد ضد الاستقلاليين الأكراد. و قد قامت أجهزة الاستخبارات المغربية, بالاشتراك مع بعض من رجال الشرطة الفرنسية, باغتياله في باريس بعد ذلك بعامين.
ومن الأعضاء الدائمين في مجموعتنا كان هناك الأخضر الابراهيمي, ذو الثلاثين ربيعا آنذاك, إذ كان سفيرا للجزائر في القاهرة. كان الأخضر دبلوماسيا غير نمطي. كان مناضلا في جبهة التحرير الوطنية قبل الاستقلال, وكان يأتي إلي مقهانا مرتديا بنطاله الجينز و قميصا بلا سترة, منتعلا صندلا في قدميه, ليشارك في أحاديثنا بصفته مفكرا ملتزما. و قد كان رغم ذلك شديد الكتمان, و كان لذلك أسبابه. فقد كان علي علاقة وطيدة برجال القيادة المصريين و علي رأسهم عبد الناصر, الذي كان يكن له مشاعر التقدير و الصداقة. وقد كنا ننصت إليه باهتمام بالغ لاسيما و أن ملاحظاته و تحليلاته كانت علي درجة عالية من الحصافة.
ويبقي أن حالات الإفراج الأخيرة قد تمت بالتحديد قبل يوم واحد فقط من وصول خروشوف إلي الإسكندرية في مايو.1964 و يجدر تذكر ذلك التاريخ جيدا: فتلك هي المرة الأولي, علي مدار عشرين عاما, التي تخلو فيها مصر من السجناء السياسيين الشيوعيين.
و قد كانت رحلة الزعيم السوفيتي إلي مصر بالطبع غير مسبوقة في الحوليات الدبلوماسية لكلا البلدين. إذ تظل هذه الرحلة فريدة من نوعها سواء لأهميتها السياسية, أو للأبهة التي أحاطت بمجراها, أو لحرارة الاستقبال التي اختص بها ضيف مصر, أو لمدتها التي أثارت الدهشة لفرط طولها. فطوال ستة عشر يوما, كنت عضوا في مجموعة الصحفيين المرافقين لنيكينا خروشوف في جولته الميمونة, التي صحبه فيها العديد من كبار المسئولين الروس, مثل أندريه جروميكو, وزير الخارجية, و المارشال أندريه جريشكو, القائد الأعلي لقوات حلف وارسو. كما أتي بصحبة الزعيم السوفيتي زوجته, و ابنه سرجي, و ابنته رادا و زوج ابنته السيد أدجوبي, ليسبغ بذلك علي رحلته طابعا عائليا.
و قد أضاف خروشوف إلي مهامه السياسية مباهج السياحة. فحضر حفلا بالأوبرا, وشارك في رحلة بحرية في البحر الأحمر, و زار متاحف, و آثارا تاريخية, و بالطبع أهرامات الجيزة, والمقابر الفرعونية بوادي الملوك في الأقصر. و بدا واضحا أن كل ما رآه قد أدهشه و أسعده.
و عند نزوله من الباخرة في الأسكندرية, كان قد استقبل بوابل من طلقات المدفعية, والبالونات الطائرة, و النشيدين الوطنيين تعزفهما الجوقة العسكرية, قبل أن يصافح الشخصيات التي أتت إليه مرحبة, في مقدمتهم أعضاء الحكومة مكتملين, و جماعة البرلمانيين, و الهيئات المشكلة, و رؤساء البعثات الدبلوماسية. كما نثرت قصاصات الورق الملونة و وريقات الورود علي طول مساره حتي ركب القطار الذي أقله إلي القاهرة.
و كان مئات الآلاف من المصريين, معظمهم فلاحون بالجلباب التقليدي و تلاميذ بالزي المدرسي, قد اصطفوا علي طول السكة الحديدية, لتحيته في هرج و اصطخاب. أما موكبه في شوارع القاهرة, تحت أقواس النصر المشيدة تكريما له و لافتات الاحتفاء بالصداقة المصرية السوفيتية, فلم ير له مثيلا علي أرض وادي النيل.
كان لدي جمال عبد الناصر أسباب وجيهة لتهيئة ذلك الاستقبال لنيكيتا خروشوف. فقد كان قد طلب المساعدة تباعا من ألمانيا الاتحادية, و من المملكة المتحدة, و من الولايات المتحدة لبناء السد العالي بأسوان, من دون أن يحظي طلبه بالقبول. فبعد أن قبل ناصر بالشروط الاقتصادية الجائرة التي كانت قد وضعتها واشنطن, إذا به يتعرض للصدمة و يستشعر الإهانة بسبب القرار المفاجئ المتخذ من قبل وزارة الخارجية الأمريكية في1956 بسحب عرضها التمويلي, بذريعة أن مصر لن تملك أسباب الوفاء بتعهداتها المالية. و واقع الأمر, أن وزير الخارجية الأمريكي, فوستر دالاس, كان قد رضخ للضغوط المتضافرة ما بين كل من اللوبي الصهيوني, و مزارعي القطن في ولايات الجنوب, الذين كانوا يخشون توسع المزارع المصرية, بالإضافة إلي جزء من الكونجرس المعادي لذلك' الفاشي' الذي مثله عبد الناصر في أعينهم. و كان عبد الناصر يشتبه برغبة واشنطن و لندن في الإطاحة به بواسطة انقلاب مماثل لذلك الذي تسبب في إسقاط محمد مصدق في إيران, قبل ذلك بثلاثة أعوام.
في تلك الظروف إذن قرر الريس, بعد استنفاد كافة الوسائل, التوجه إلي موسكو بعد أن استحوذ علي عوائد قناة السويس. و قد قدم له نيكيتا خروشوف هدية القرن بقبوله إمداده بالأموال, و بالتكنولوجيا, و بآلاف المهندسين و الفنيين اللازمين لتشييد ما سمي ب' هرم الأزمنة الحديثة الأكبر'.
وقد انتهت الزيارة' التاريخية' للأمين العام للحزب الشيوعي السوفييتي إلي نتائج كان القادة المصريون يرجونها وإن كانوا لا يجرؤون علي تصديقها. فقد أعلن نيكيتا خروشوف تباعا أن موسكو ستمول المرحلة الثانية و الأخيرة من بناء السد العالي بأسوان, و أنها ستمنح مصر قروضا طويلة الأجل لتنفيذ الخطة الخمسية الثانية باهظة التكاليف, و التي تتضمن تشييد عشرين مصنعا للصناعات الثقيلة, ضمن مشروعات أخري. و قد أغدق عبد الناصر بكرم' الأخ نيكيتا'. وبلغت' الصداقة السوفيتية المصرية' أوجها, حتي أنها أثارت قلق القنصليات الغربية, وتسببت في استقالة السفير الأمريكي بالقاهرة, جون بادو, الذي دفع بذلك ثمن الفشل السياسي لحكومة بلاده. فبرفض الأمريكيين بيع السلاح إلي مصر, ثم رفضهم تمويل بناء السد العالي, ظنا منهم أنهم يزعزعون النظام الناصري بهذه الطريقة, فقد دفعوا بالريس باتجاه القادة السوفيت.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.