قمة بمن حضر وغَفَر د. عصام نعمان ليست القمة العربية أمراً يتعلق بالجوهر بل بالمظهر. لو كانت القمة أمراً جوهرياً لكان الملوك والرؤساء يحرصون على حضورها والمشاركة شخصياً فيها منذ أن جرى ابتداعها في منتصف الستينات من القرن الماضي. ثم إن غياب كل من الملك عبدالله بن عبدالعزيز والرئيس حسني مبارك ليس بحد ذاته سابقة تستوقف المراقب، ذلك بأنه في ست قمم عربية منذ العام 2002 تغيّب العاهل السعودي، ولياً للعهد ثم ملكاً، عن ثلاث منها وتغيّب الرئيس المصري عن اثنتين. صحيح أن لتغيّب الملوك والرؤساء عن القمم المتعاقبة أسباباً سياسية داخلية وخارجية وأخرى أمنية، لكن تبيّن أيضاً أن للنواحي الشخصية دوراً كبيراً في تقرير الحضور أو الغياب. فقد تردد أن الملك عبدالله كما الرئيس مبارك (وربما غيرهما أيضاً) استاءا من عبارة “أنصاف الرجال" التي وردت في خطاب للرئيس بشار الأسد عقب اندحار “إسرائيل" في حربها العدوانية على لبنان والمقاومة صيف العام 2006. كما تردد ان امتناع رئيس الحكومة اللبنانية فؤاد السنيورة عن زيارة دمشق رغم تلقيه دعوتين رسميتين إنما مردّه، بالدرجة الأولى، إلى استيائه من وصف الرئيس السوري له بأنه “عبد مأمور لعبد مأمور". صحيح أن الأسد كان أكدّ لكل من العاهل السعودي والرئيس المصري أنه لم يقصد البتة، في العبارة المشكو منها، الإشارة إليهما شخصياً أو إلى أي ملك أو رئيس عربي بل إلى فئة من المسؤولين والمواطنين تعوّدت تقبّل المهانة من العدو، إلا أن توضيحه لم يبدد أثرها السلبي في نفوس منتقديه. ومع ذلك، ثمة من يؤكد أن عبارة الأسد تلك كانت مجرد غيمة عابرة، وأن توضيحه في صددها صادف تقبّلاً لدى منتقديه، وأن العاهل السعودي كان سيشارك في قمة دمشق لو أن الرئيس السوري وافق على ممارسة الجهد اللازم لحمل حلفائه اللبنانيين على تسهيل انتخاب رئيس جديد للجمهورية قبل انعقاد قمة دمشق. ليس ملوك العرب ورؤساؤهم مَن يتفرد من دون الآخرين بالتأثر بالنواحي الشخصية في الأمور السياسية. فقد تسنّى لي متابعة إحدى حلقات “بلا حدود" التي أجراها أحمد منصور في فضائية “الجزيرة" مع مراد غالب وزير خارجية مصر في عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر. في تلك الحلقة تطرق الدكتور غالب إلى النواحي الشخصية في طريقة تعاطي كل من الزعيم السوفييتي نيكيتا خروشوف ووزير دفاعه الماريشال مالينوفسكي مع كل من عبدالناصر ووزير دفاعه المشير عبدالحكيم عامر. فقد كان خروشوف، خلافاً لما كان معروفاً عنه، فظاً وغير ودود البتة في مخاطبة الرئيس العربي، الأمر الذي أثاره وحمله على التفكير جدياً بقطع محادثاته في موسكو عقب نجاح ثورة 14 يوليو/ تموز 1958 على النظام الملكي في العراق. غالب، الذي كان آنذاك سفيراً لبلاده في موسكو، طيّب خاطر عبدالناصر وبيّن له أن فظاظة خروشوف هي مجرد طريقة في التعبير يتبّعها الزعيم السوفييتي للتأثير في محدثه وأنها لا تنطوي بالضرورة على موقف سلبي منه أو من سياسته. في ضوء هذا التوضيح استدرك الرئيس العربي الموقف بأن ردّ في اليوم التالي على خروشوف بالطريقة نفسها إذ تكلم بقوة مفنداً ما سبق للزعيم السوفييتي ان طرحه في الجلسة السابقة ونال، جزئياً، ما أراد. الأمر نفسه تكرر مع عبدالحكيم عامر الذي كان القادة السوفييت يحبونه، حسب رواية مراد غالب، لبساطته وعفويته، إذ ردّ عليه الماريشال مالينوفسكي بسخرية وتعالٍ عندما طلب مزيداً من الأسلحة: هل تريدها لتسليمها ل"الإسرائيليين" دونما قتال في سيناء؟ لكن غالب لم يذكر في حديثه جواب عامر على الماريشال. وجاء في شريط سينمائي لسيرة الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتيران ان “إسرائيل" وقادة اليهود الفرنسيين كانوا ضغطوا عليه كي تعوّض فرنسا الكيان الصهيوني، مثلما فعلت ألمانيا، عن اضطهاد اليهود من طرف حكومة فيشي الموالية لألمانيا النازية أثناء احتلال هذه الأخيرة لفرنسا في الحرب العالمية الثانية. فقد اعتبر ميتيران أن حكومة فيشي لم تكن تمثل فرنسا، ورئيسها الماريشال بيتان اعتبرته فرنسا الحرة بعد الحرب خائناً وحاكمته، وأن الإقرار ل"إسرائيل" بحق التعويض لها عمّا لحق اليهود الفرنسيين من اضطهاد هو إدانة لفرنسا لا يمكن القبول به، كما لا يمكنه هو شخصياً أن يركع أمام “إسرائيل" كما فعل ويلي برانت، مستشار (رئيس حكومة) ألمانيا الفيدرالية الذي كان أجاز التعويضات للكيان الصهيوني. النواحي الشخصية كثيراً ما تبرز، إذاً، في ممارسات القادة والسياسيين، كما أن قيم العزة والأنفة والكرامة كثيراً ما تفعل في هؤلاء وتحملهم على اتخاذ مواقف عظيمة الأهمية والدلالة. غير أنه يخشى أيضاً، وفي أحيان كثيرة، أن تؤدي شخصنة السياسة إلى سلبيات. ثمة أمثلة كثيرة يمكن إيرادها في هذا المجال، لكني أكتفي بواحدٍ منها هو ما نُسب إلى جورج بوش من ادعاء بأنه يتواصل مع الله تعالى الذي أوحى إليه بخوض المعركة الرئاسية العام ،2000 وأن كراهيته الشخصية لصدام حسين كانت أحد أبرز أسباب شنّه الحرب على العراق. فالرئيس العراقي “حاول اغتيال أبي في الكويت"، كما صرّح مرةً، وأنه رسم صورته على مدخل “فندق بغداد" كي يطأها بأقدامهم الداخلون إليه والخارجون منه. وثمة من يدري أن النواحي الشخصية قد تكون مجرد ذرائع أو أسباب إضافية لاتخاذ مواقف أو صوغ سياسات أو شنّ حروب لدواعٍ أمنية ولمصالح اقتصادية. فالرئيس الأمريكي شنّ الحرب على العراق طمعاً في السيطرة على نفطه من جهة وتمهيداً لتقسيمه وإنهاء خطره الاستراتيجي كرمى لعيني “إسرائيل" من جهة أخرى. ومع ذلك، لم يتورع بوش عن الكذب بادعائه أن العراق يمتلك أسلحة دمارٍ شامل وأن صدام كان على صلة بتنظيم “القاعدة". بالعودة إلى بحث أسباب تعثّر القمم العربية، نكتشف أن للنواحي الشخصية دوراً محدوداً بالمقارنة مع سببين أساسيين لطالما فعلا فعْلاً مدمراً في الحياة العربية. السبب الأول هو تدني مستوى الوعي العربي وبالتالي تخلّف العرب ثقافياً وسياسياً واقتصادياً بالمقارنة مع شعوب الغرب ودوله في التاريخ المعاصر. السبب الثاني هو دور الغرب، لاسيما دوله الكبرى المستعمِرة كبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، في إضعاف العرب وشرذمتهم واستحلاب خيراتهم ومواردهم. لولا هذين العاملين البالغي الأهمية لربما كانت القمة العربية أمراً يتعلق بالجوهر وليس بالمظهر في حياة العرب السياسية. لو كانت القمة جوهراً لا مظهراً لكان ملوك العرب ورؤساؤهم يلتقون في قمة أو أكثر خلال السنة الواحدة ويحرصون بأنفسهم على بحث القضايا العالقة واتخاذ القرارات الحاسمة في شأنها، لا أن يتركوا لوزراء خارجيتهم، عشية كل قمة، أن يصوغوا بياناً إنشائياً مفرغاً من أي تدابير إجرائية ومواقف حاسمة ليعلنه أمين عام جامعة الدول العربية باسم الملوك والرؤساء في جلسة ختامية. لو كانت القمة جوهراً لا مظهراً لكان الملوك والرؤساء العرب ينفذون ما يتخذونه من قرارات وتوصيات، لا أن يتركوها تتراكم حتى أضحت، منذ العام ،1945 أطناناً من حبر مراق على ورق مصقول ضاقت به مستودعات الجامعة وأرشيفها الشديد الازدحام. لهذه الأسباب جميعاً، الأساسية منها والشخصية، تنعقد القمة العربية في دمشق بمن حضر وبمن غَفَر. عن صحيفة الخليج الاماراتية 29/3/2008