اتضحت الآن أبعاد اللعبة المدبرة من وراء ستار لتمرير مشروع الدستور من خلال تخيير المصريين بين الاعلان الدستوري ومشروع الدستور, فاذا أردتم انهاء الاعلان فعليكم الموافقة علي مشروع الدستور, أي تخيير المصريين بين بديلين كليهما يكرس الاستبداد. الفارق بينهما أن الأول مؤقت بينما الثاني دائم. يتضح ذلك جليا من أن من خططوا لاصدار الاعلان وضعوا فيه نصا يقضي بمد عمل الجمعية التأسيسية شهرين, ولكنهم خططوا في الوقت نفسه لكي تكمل الجمعية أعمالها في يومين وتصوت علي المشروع في17 ساعة متواصلة, بحيث تنتهي من مشروعها, وتطرحه للاستفتاء تحت دعوي انهاء الاعلان الدستوري. بينما في الواقع فان مشروع الدستور يكرس بشكل دائم ماجاء في الاعلان بشكل مؤقت. قامت الجمعية بذلك برغم علم أعضائها بأن مشروعيتها محل طعن, وكان من الواجب عليها أن تنتظر حتي تؤكد مشروعيتها القانونية. فدستور مصر لايمكن أن يوضع بطريقة غير قانونية لأن الغاية لاتبرر الوسيلة. ولكن السيناريو الخفي هو استعمال الاعلان الدستوري للمقايضة به علي مشروع الدستور, واجهاض حكم القضاء المصري. المشكلة أننا حين نقرأ مشروع الدستور نكتشف أنه يكرس أسوأ مافي الاعلان الدستوري ويزيد عليه اذ يحول طبيعة المجتمع المصري من مجتمع مدني يحكمه القانون الي مجتمع يحكمه الفقهاء والفتاوي, وينشيء نظاما استبداديا دائما يكرس تزوير الانتخابات, ويميز بين المواطنين. فرغم أن المشروع ينص في المادة الثانية أن مباديء الشريعة الاسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع, الا أنه يعود في المادة219 ليقول ان مباديء الشريعة الاسلامية تشمل أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة. ليس مفهوما لماذا لم توضع المادتان معا حتي يتحقق وحدة الموضوع. هل القصد هو اخفاء المادة219 بوضعها في النهاية؟ ولكن نعرف أن هناك خلافا شديدا بين الفقهاء وبين مختلف تيارات أهل السنة والجماعة( من سلفيين وأشاعرة وماتريديون) ومذاهبهم حول تلك الأصول الفقهية ومصادرها وبالذات فيما يتعلق بالمسائل السياسية وفي مقدمتها شكل الحكم. هل يمكن أن نعرف مثلا ماهي الأدلة الكلية والقواعد الأصولية الفقهية في قضايا الشوري ودور المرأة ودور غير المسلمين في السياسة أو في قضية العلاقات الدولية للدولة الاسلامية؟ ثمة اختلاف شديد بين المذاهب حول تلك القضايا. بالتالي فان الاحتكام الي ماهو مختلف حوله يفتح المجال أمام تفسيرات الفقهاء من هيئة كبار العلماء, ويجعل منهم وليا علي المجتمع تماما مثل نظام ولاية الفقيه.. ألا يعلم واضعو المشروع, ويفترض أنهم يعبرون عن الثورة, أن تلك المذاهب تكاد تجمع علي تحريم الثورة علي الحاكم حتي لو كان ظالما؟ ألم يدن السلفيون ثورة25 يناير ثم عادوا لكي يتحدثوا باسمها؟ وتتكرس دولة الفقهاء والفتاوي في النص علي أخذ رأي هيئة كبار العلماء في أمور الشريعة وأن ينتخب شيخ الأزهر من بين أعضائها. فاذا سيطر أنصار تيار فقهي معين علي الهيئة فانه يستطيع أن يمارس الولاية الدينية علي المجتمع. واذا كان مشروع الدستور هو مشروع لكل المصريين فلماذا لم ينص علي دور الكنائس أيضا, أليست تلك الكنائس مؤسسات مصرية أيضا؟ ضف الي كل ذلك أنه بينما ينص مشروع الدستور علي المساواة بين المواطنين( م33) الا أنه يقصر حق اقامة دور العبادة علي أصحاب الديانات السماوية ( م43) رغم أن المسلمين يقومون ببناء دور العبادة في الدول التي تنتمي الي الديانات غير السماوية مثل اليابان والهند وتايلاند. أين روح التسامح الديني ونحن نصلي في مساجد في بلادهم ومحظور عليهم ذلك في بلادنا؟. من ناحية أخري, يكرس مشروع الدستور الاستبداد الرئاسي. فرغم أنه ينص علي أن الرئيس هو رئيس السلطة التنفيذية( م132) الا أنه ينصبه راعيا للحدود بين السلطات في المادة ذاتها. فكيف يكون الرئيس رأسا للسلطة التنفيذية, وراعيا للحدود بين السلطات في الوقت نفسه؟ تلك هي البدعة التي أدخلها السادات, وهي تعني اعطاء رئيس الجمهورية حق التدخل في شئون السلطات الأخري وأهمها السلطة القضائية. بل وزاد علي ذلك بأنه فتح الباب أمام تحصين الانتخابات الرئاسية. فقد أنشأ المشروع المفوضية الوطنية للانتخابات للاشراف علي الانتخابات( م208) ولم يعط أعضاءها أي ضمانة قضائية ضد انهاء انتدابهم, بل ان المشروع كرس الخطيئة الدستورية التي جاءت في الاعلان الدستوري الصادر في30 مارس سنة2011 والتي حصنت قرارات لجنة الانتخابات الرئاسية ضد أي طعن. فقد نصت المادة211 من المشروع علي أنه لايجوز الطعن علي نتائج الاستفتاءات أو الانتخابات الرئاسية بعد اعلانها. ففي انتخاب رئاسي قادم فان قرارات المفوضية نهائية غير قابلة للطعن عليها, مما يفتح الباب واسعا أمام التزوير المحصن. فضلا عن ذلك فان مشروع الدستور أضعف من سلطة المحكمة الدستورية اذ أنه خفض من عدد أعضائها( م176) لكي يتم التخلص من القضاة الذين عارضوا الاخوان. كما جعل تعيينهم من خلال ترشيح جهات قضائية لم يحددها وليس من خلال جمعيتهم العمومية. كما أنه ترك للقانون تحديد مايترتب علي أحكام المحكمة من آثار مما يفتح المجال لسلب المحكمة بعض اختصاصاتها. هل يجوز أن يجيز دستور مصر لرئيس الوزراء أن يكون قد حمل جنسية دولة أجنبية ثم تنازل عنها( م156) ؟ هل يجوز أن يجيز دستور مصر تشغيل الأطفال قبل سن الالزام بشرط أن يكون ذلك في أعمال تناسب عمرهم( م70) ؟ هل يجوز أن يجيز دستور مصر محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري في الجرائم التي تضر بالقوات المسلحة( م198), دون تعريف لتلك الجرائم مما يفتح الباب أمام كثير من التفسيرات التي قد تعصف بحقوق المواطنين؟ هل يجوز أن ينص المشروع علي انشاء المجلس الوطني للاعلام والذي ينظم شئون البث المسموع والمرئي والصحافة( م215) دون أن يشير الي تكوين المجلس, مما يفتح المجال أمام تعيينهم من الموالين للحكومة, وبالتالي يتحول المجلس الي مؤسسة رقابية حكومية لضرب الاعلام. أتصور أنه لايمكن تخيير المصريين بين استبداد مؤقت وآخر دائم, أو أن يقبل المصريون بدولة ولاية الفقيه. وعلي رئيس الجمهورية أن يثبت أنه رئيس لكل المصريين بوقف تلك الممارسات التي أدت الي شق المجتمع المصري وبدء عملية توافقية جديدة نذكر الرئيس بالشعار الذي رفعه في الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة قوتنا في وحدتنا, وهو الشعار الذي لم يتكرر أبدا بعد انتخابه, وعلي المصريين في حالة الاصرار علي الاستفتاء علي مشروع الدستور الذي يكرس الاستبداد أن يقاطعوا الاستفتاء لحرمان المشروع من أي مشروعية تماما كما حدث لتعديلات مبارك للدستور سنة.2007 المزيد من مقالات محمد السيد سليم