يا سبحان الله الذي أنقذ يوما محمود عباس أبومازن الرئيس الفلسطيني الذي كان مزمعا التوجه قبل الاعتداء الإسرائيلي الأخير علي غزة في29 نوفمبر للأمم المتحدة للحصول علي صفة مراقب للدولة الفلسطينية. أنقذه الله من الاغتيال في16 ابريل1988 علي يد إيهود باراك وزير الدفاع الإسرائيلي الحالي الذي أراد التخلص منه هو الآخر فوق البيعة عندما أعد خطته وقتها لاغتيال خليل الوزير أبوجهاد مهندس الانتفاضة في تونس, ووافق علي الخطة كل من إسحق شامير رئيس الوزراء, ونائبه شيمون بيريز, وإسحاق رابين, وتم استدعاء فرق الكوماندوز التابعة للموساد إلي جانب رؤساء الأجهزة الأمنية لوضع اللمسات الأخيرة للمؤامرة قبل التنفيذ.. عرض علي الجمع المتآمر مجسم مصغر لحي سيدي بوسعيد الذي يقيم فيه قادة فتح في تونس, فسأل باراك رئيس الأركان وقتها عن البيت المجاور لبيت أبوجهاد فأجابه مندوب الموساد بأنه بيت أبوالهول هايل عبدالحميد المسئول عن الأمن الداخلي في منظمة التحرير, وعاد باراك ليسأل: ومن يسكن هنا؟! مشيرا إلي أحد المنازل القريبة وليست الملاصقة لبيت أبوجهاد فأجابوه بأنه بيت أبومازن المسئول في ذلك الوقت عن إجراء الحوار مع اليسار الإسرائيلي وبعدها نائبا لعرفات فقال باراك: إن بيته لقريب جدا من هدفنا الرئيسي فلماذا لا نقوم بزيارة إليه أيضا؟!, فأتاه الرد: قد يؤدي توسيع العملية إلي إرباك قواتنا وتورطها وإلي ما لا تحمد عقباه.. وظل باراك علي إصراره قائلا: ولكننا نرسل إلي تونس لتنفيذ العملية جيشا عرمرم من خمس سفن حربية وغواصة إلي جانب أربع طائرات مقاتلة مع قوات الكوماندوز فلم لا نضرب عصفورين فلسطينيين مكتنزين بحجر واحد؟!.. ويدور الجدل طويلا ليحتفظ باراك برأيه في غلق الحسابين بضربة واحدة تؤدي إلي تحجيم الانتفاضة التي تفاقمت, بينما عارض الموساد بحجة عدم الوثوق من وجود الهدفين في منزلهما في وقت واحد, ثم إن العملية من الأصل مخططة وموجهة لأبوجهاد فقط لا غير.. وفي النهاية ترك القرار لباراك الذي تراجع كي لا يتحمل المسئولية وحده لينجو أبومازن وتكتب له الحياة ومسيرة النضال التي يسافر فيها للأمم المتحدة مطالبا بوضع فلسطين علي خريطة القانون الدولية.. وإذا ما كان باراك رجلا قد فشل في اغتيال أبومازن فإنه كامرأة قد نجح من قبل في اغتيال القادة الفلسطينيين الثلاثة كمال عدوان وكمال ناصر وأبويوسف النجار في بيروت عام1973, وذلك عندما تنكر في زي نسائي فاضح بعد أن أخفي ملامح وجهه بماكياج حريمي متقن, وارتدي باروكة شقراء وأطلق علي نفسه اسم ديمونا وذهب متهاديا بالكعب العالي لكل واحد فيهم ليقتله في شقته, حيث كانوا يسكنون ثلاثتهم في عمارة واحدة بدون أية حراسات ودون أية أسلحة فعلية وحقيقية في منطقة الحمراء البيروتية الشهيرة التي كانت مفتوحة لكل من هب ودب, وكانت رؤية أي غريب غير عربي فيها لا تبعث علي الشكوك مما جعله يقتلهم تباعا بصلف ووقاحة وقلب ميت دون أن يدفع إطلاق النار فضول الجوار والمارين في شوارع المنطقة, إذ أن إطلاق الأسلحة الرشاشة كان مسألة عادية ومألوفة في تلك الفترة في عام1973 سواء في بيروت أو في غيرها من المدن اللبنانية.. قتلهم ربما انتقاما لمقتل عمال مفاعل ديمونة بتحريض من أبوجهاد الذي هدم عرائس الشطرنج فوق مائدة الصراع الدموية بهذه العملية التي لم يكتب لها النجاح, لكن الرعب الأكبر كان من مجرد التفكير فيها, والتي كانت إذا نجحت سيطالب الفلسطينيون من موقع سيطرتهم علي المفاعل فيها إطلاق سراح9 آلاف معتقل فلسطيني في معتقلات الأرض المحتلة.. وكان أبوجهاد مسئولا من قبل عن عملية فندق سافوي بتل أبيب عام1975, وتفجير مقر الحاكم العسكري الإسرائيلي بمدينة صور يوم10 نوفمبر1982 التي أودت بحياة76 ضابطا وجنديا إسرائيليا, وغيرها من العمليات الفدائية الكثيرة ضد قوات الاحتلال الإسرائيلية.. اقتصرت المهمة في تونس علي التوجه الدموي لاغتيال أبوجهاد, وبدأت التدريبات المكثفة بإعداد نموذج تفصيلي شبيه بمنزله يظهر عليه نظام الحراسة والطرق المؤدية إليه وطرق الهروب منه.. واستغرقت الاستعدادات أكثر من شهرين, حيث أرسل الإسرائيليون في البداية فريقا من عملاء الموساد لجمع المعلومات متخفين كسياح ورجال أعمال, مستخدمين أجهزة تنصت ورصد متطورة, حيث استطاعوا بها جمع أدق التفاصيل عن منزل أبوجهاد والطرق المؤدية إليه والمداخل والمخارج وحتي أنواع الأقفال المستخدمة وحركات الحرس وأنشطة الجيران وأنواع وأرقام السيارات في المنطقة, وبعدها قام الفريق بعملية استكشاف للشاطئ القريب وحددوا المكان المناسب لنزول فريق الاغتيال, ولم تتوقف عمليات التأهب إلا بعد أن شعر جميع الأعضاء بأنها غدت أشبه بنزهة معادة, فأرسلوا تقاريرهم مع العشرات من الصور الملتقطة ومكثوا في تونس علي أهبة الاستعداد, وقبل أيام من الرقم صفر في العد التنازلي قام قائد الفريق برتبة كولونيل بزيارة قصيرة إلي تونس حيث اطلع بنفسه علي مسرح الجريمة, وكم كان سعيدا راضيا بما رآه فقد كان أبوجهاد يعيش في فيللا شبه معزولة لها حديقة واسعة تأخذها بعيدا عن نظر وسمع الجيران, وظل أمر ضمان وجود أبوجهاد في الفيللا عندما يصلون إليها هو شاغل القتلة الشاغل, وتفتق الذهن الإسرائيلي المتآمر إلي وصول وحدة بوليس إسرائيلية إلي غزة واتجاهها بدون سابق إنذار إلي منزل المحامي فايز أبورحمة ابن عم أبوجهاد لتقوم باعتقاله, ويقوم أحد عملاء الموساد بالاتصال من غزة ببيت أبوجهاد ليبلغه بخبر اعتقال قريبه للتأكد من وجوده بالمنزل في هذه الليلة, لتتحرك بعدها الشياطين المدربة جوا وبرا وبحرا لتهاجم البيت الآمن الذي لم يكن يحرسه سوي حارسين مسنين وشاب يقوم بمهام الاتصال وقيادة السيارة والحراسة في الوقت نفسه.. و..يقتل صاحب البيت! وإذا ما كانت الرقابة الإسرائيلية قد سمحت الآن وبعد مرور24 عاما بنشر اعتراف إسرائيل باغتيال القائد الفلسطيني خليل الوزير أبوجهاد عندما كانت الانتفاضة الأولي في ذروتها, وذلك في صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية, وهي التي رفضت طوال الأعوام السابقة تأكيد مسئوليتها عن هذا الاغتيال, فقد اعتبرت السلطة الفلسطينية هذا الاعتراف العلني بمثابة الدليل القاطع علي ضلوعها في اغتيال القادة السابقين ومنهم صلاح خلف أبوإياد وغسان كنفاني أبو حسن سلامة وسعد صايل أبوالوليد ووائل زعيتر, وأيضا الشيخ أحمد ياسين, وعبدالعزيز الرنتيسي, وأبوعلي مصطفي الزبري, والرئيس الراحل ياسر عرفات أبوعمار الذي كان أكثر حذرا وحيطة من رفاقه, ويعتمد علي غريزته الأمنية أكثر من اعتماده علي حراسات مشددة مدربة ومتأهبة علي مدار الساعة, وكان غذاؤه لا يخضع للرقابة المفروضة, حيث كان جميع العاملين معه بمركزه القيادي إلي جانب ضيوفه العابرين يشاركونه علي الدوام عشاءه المتأخر, وظل الأمر كذلك عندما كانت قيادته في عمان وبعدها في بيروت ثم في غزة ثم في رام الله, ولذلك فقد تمكن الإسرائيليون من اصطياده بالمادة السامة التي تم كشف النقاب عنها مؤخرا, والتي بات في حكم الثابت أن الموساد من خلاله عملائه هو الذي دسها في طعامه خلال حصاره بمقره القيادي بمباني المقاطعة في رام الله.. وقد صدر بالأمس حكم قضائي دولي بالسماح لقضاة فرنسيين مكلفين بالتحقيق في وفاة عرفات بالتوجه إلي رام الله ليأخذوا في26 من هذا الشهر عينات من رفاته, وسوف تشارك مصر وروسيا في فحص الرفات إلي جانب فرنسا وسويسرا.. ومما يؤكد الآن قناعة السلطة الفلسطينية بأن الاعتراف العلني للرقابة الإسرائيلية باغتيال أبو عمار يعد دليلا مهما في حال اللجوء مستقبلا إلي مقاضاة إسرائيل في المحاكم الدولية أن هناك وزيرين حاليين في الوزارة الإسرائيلية كشفت الرقابة أنهما قد اشتركا بأنفسهما في تنفيذ الجريمة الوحشية, أولهما ايهود باراك وزير الدفاع الذي ذكرت يديعوت أحرونوت أنه كان يتولي قيادة القطع البحرية الخمسة التي ترافقها غواصة انطلقت جميعها من القاعدة البحرية بحيفا لتنفيذ العملية, وموشيه يعلون وزير الشئون الاستراتيجية في الحكومة الإسرائيلية الحالية الذي أمطر جسد أبوجهاد بوابل من زخات الرصاص, ثم عاد إلي غرفة المشهد الدموي ثانية ليطلق رصاصة أخري وكأنها التوقيع الأخير علي نص التعدي!تلك أبرز الحقائق التي حملتها الأنباء في الاعترافات الإسرائيلية الرسمية التي جاءت في التحقيق الصحفي الذي أجراه رونين بيرجمان في صحيفته يديعوت أحرونوت هذا الأسبوع, وكان قد مكث علي مدي20 عاما يدور حول موضوع مقتل أبوجهاد ليغطيه صحفيا دون جدوي, وأخيرا ومنذ ستة أشهر فقط ومن بعد مفاوضات طويلة بين الصحيفة والرقابة العسكرية أجيز نشر عدة معلومات منها أن الضابط ناحوم ليف الذي قتل في حادث سير سنة2000 وهو في طريقه إلي إيلات هو نجل البروفيسور زئيف ليف والذي ترأس فرقة الاغتيال عندما سار مع زميله المتخفي في زي امرأة كما لو أنهما عاشقان, ثم توجها إلي سيارة الحارس الخارجي وأطلق أحدهما النار عليه, ثم أعطيت الإشارة لبقية الفرقة باقتحام الفيللا فاغتالوا الحارس الثاني, وأطلقوا النار علي الجنايني, وبحسب رواية الضابط القاتل فقد صعد أفراد القوة بعدها إلي الطابق الثاني وهناك أطلق عددا من الرصاص علي أبوجهاد علي مرأي من زوجته حتي بلغت أعداد الطلقات من أكثر من مصدر77 طلقة....... هذا ما قرأناه قادما من يديعوت.. إلا أنني هنا في مصر في عام1988 بعد الحادثة بشهور معدودات جلست إليها.. إلي بطلة المشهد الدامي, واستمعت لأدق التفاصيل وكأنني عشت معها دقائق الليلة السوداء ورصدت معها ناحوم مرتديا ملابس امرأة.. جلست إلي أم جهاد زوجة المناضل الفلسطيني خليل الوزير أبوجهاد التي جاءت إلي مصر بعد الواقعة وكانت قد أغلقت منزل تونس نهائيا بدعوة من اللجنة الوطنية المصرية لدعم الانتفاضة.. الأرملة التي استشهد زوجها حبيبها والد صغارها أمام عينيها فطوت أحزانها لتكمل مسيرة النضال.. جلست إليها تكبلني عبراتها وعباراتها تنقلني إلي أرض الواقع في تونس عندما يعود أبوجهاد آخر الليل بعد نهار اتصالات يهندس خلالها سيمفونية انتفاضة شعبه.. خطوات الأب تقوده إلي الابنة حنان طالبا منها ترجمة خبر بالإنجليزية حول استعداد النجم العالمي أنطوني كوين لتمثيل فيلم عن القضية الفلسطينية يلعب فيه دور أبوعمار.. الصغير نضال ابن الثانية يأكل أرزا مع الملائكة في مهده فتمتد يد الأب تحكم من وضع الغطاء. علي مائدة عشاء سريع اللقمات تكاد معدته تنسي مذاقها في نهار انشغاله يحادث أبوجهاد زوجته انتصار عن آخر تقرير وصل إلي غزة حول اصطدام سفينتين قبالة شاطئها, كانت إحداهما محملة بعلب السمن, مما أدي إلي انتشارها علي الساحل فأسرع الأهالي لجمعها فرحين علي أنها هبة من الله سبحانه وتعالي أتت لهم من السماء.. الساعة الواحدة صباحا ليست مؤشرا علي نهاية يوم أبوجهاد.. إلي مكتبه يجلس يدون آخر رسالاته في التخطيط للمرحلة الثانية من الانتفاضة في الضفة الغربية وبين انفعال السطور يرفع أبوجهاد وجهه لا ليحلق بعيدا وإنما إلي واقع الانتفاضة من خلال فيلم فيديو يدور قبالته لأبناء ثورة الحجارة.. وتطل أم جهاد علي الزوج ترعاه من بعيد وقريب.. هذا المظهر الآمن للبيت الصغير الظليل في ضاحية سيدي بوسعيد بالعاصمة التونسية كان خادعا.. هذا الزوج والأب في تلك اللحظة القدرية كانت قد اجتمعت عليه دولة بأكملها انعقد مجلس وزرائها ليوافق بأغلبية الأصوات علي اقتراح قدمه كبيرها بقتل المناضل الفلسطيني علي أرض تونس الخضراء.. أبوجهاد الجالس إلي مكتبه في هدوء الليل كانت تحلق فوق سمائه طائرة عسكرية إسرائيلية من طراز707 تحمل إشارة977 من النوع الخاص بالحرب الإلكترونية قامت بتعطيل الاتصالات في منطقة بيته الهادئ المطل علي الشاطئ.. الشاطئ الذي تسللت إليه سفينة طرحت من باطنها قوارب شيطانية من المطاط التوت كالأفاعي في جنح الظلام لتقذف أبالسة بثياب سوداء شرخوا أستار الليل الآمن وأفرغوا سعير طلقاتهم في جسد أبوجهاد الذي خرج إليهم شجاعا باسلا يحمل مسدسه وامرأته من خلفه. القتلة من بينهم امرأة مهمتها تسجيل لحظات الاغتيال بالفيديو لتطلع سادتها في بلدها علي تمام مهمة النذالة.. أم جهاد راكعة وجهها إلي الحائط تبتهل قرآنا.. حنان تفزع من نومها تهرول إلي الضجة حول أبيها المضرج في بركة دمائه فتحجرها في موضعها صرخة أحد زبانية العصابة الحديدية الإلكترونية الموجهة روحي عند أمك.. نضال يزحف متعثرا بابا علي الأرض هيك.. وفي ثوان معدودات تمت عملية الاغتيال وانتهت المجزرة ورحل الشياطين السود, وفوق درجات السلم احتضنت الأم صغيرها المرتعش تلتصق بها ابنتها الملتاعة.. كتلة بشرية من الحزن.. تحت الدرجات جثة الحارس, وفي الردهة هناك جسد الأب الذي نخلته الثقوب.. و..تأتي الأصوات من بعيد ليعرف العالم أن أبوجهاد قد قتل! تتذكر كلماته.. حوارهما.. قضيتهما معا.. ملحمة الحب والحرب عندما تعانقت المشاعر والهدف مشترك والوطن المشترك مثخن بالجراح.. ابنة العم انتصار تفتح نافذة ربيعها علي شباك خليل ابن عمها فينبت الإعجاب زنبقا علي ضفاف الفؤاد.. ويزداد العدو ضراوة فتقترب الصفوف ويشتد عزمها لاسترداد الوطن السليب, ويلمح القائد وجها أليفا وسط وجوه المناضلات.. ويندمج خليل في تدريب الشباب علي حمل السلاح ويظل الوجه الأليف مسيطرا.. لكن.. لا وقت للحب.. يهمس لنفسه فوق وسادة الإرهاق, لكن تلك الألفة في وجه فتاته تجعله يضع وجهها أبدا بين عينيه, ويكتشف القائد أن الغادة التي تتحرك بملابس الميدان وتجيد إصابة الهدف وتسديد الطلقة هي نفسها ابنة العم وفتاة الحي والجيرة... عربية أنا من فلسطين. مولدي في قطاع غزة.. فتحت عيوني علي هول غارات إسرائيل في سنوات ما بعد نكبة..48 عشت هجرة الأهل وسكني الخيام ومرارة حياة اللاجئين.. كنت في السادسة من عمري حين ذهبت مع والدتي من غزة إلي مدينة الرملة لزيارة بيت عمي والد أبوجهاد وكان ذلك اللقاء الأول مع أبوجهاد في زيارة عائلية, وبعد النكبة غادر مئات الآلاف من الفلسطينيين ديارهم عنوة وكان بينهم سكان اللد والرملة الذين جمعتهم القوات الصهيونية في أماكن العبادة ثم طردتهم للشرود, وجاء عمي وأولاده من رملة إلي غزة ونزلوا ضيوفا في بيتنا لمدة سنة ونصف السنة, كما فعل آلاف اللاجئين الذين حلوا ضيوفا فيما تبقي من فلسطين وقتها علي أقاربهم آملين في عودة سريعة لمنازلهم وممتلكاتهم, كما وعدتهم القيادات العربية في ذلك الزمان.. وانتقل عمي وأسرته إلي منزل جديد في غزة استقروا فيه, ولكن علاقتنا الأسرية بقيت قوية دون حواجز.. وفي عام59 كنت أول فتاة تنضم لفتح.. انتقينا والتقينا.. أصبحت أمينة سر أبوجهاد وحاملة أشيائه وأوراقه وأحلامه وعواطفه, وانتظرنا عامين لتسمح اللجنة المركزية بزواجنا.. وسأظل أذكر قوله لي قبل استشهاده بأيام: أنت طماعة للغاية ألم يكفك مني26 سنة قضيتها بجوارك!!..... في خضم اللوعة يشرق في صدورها نور الزوج الذي رحل اليوم وكان قد تعرض قبلها ل65 محاولة اغتيال.. القضية لم تمت معه.. أبوجهاد لم يمت.. سيتجسد في كل شاب وطفل وامرأة.. ولا يمضي علي الحادث ساعة إلا ويبدأ إلحاح رنين وكالات الأنباء المتسائلة.. ويجيب الموجودون اتركوا أم جهاد في دوامة الصدمة.. لكن أم جهاد تهرول إلي السماعة.. لا.. أريد أن يعرف العالم جريمة إسرائيل ولو لم تطلبني الوكالات لطلبتها أنا.. أبوجهاد عاش عمره لم يعرف الحذر ودعاه القدر وانطرح وجهه الوضئ علي جذوع التين والزيتون نابتا في شجر الخليل والجليل... وتعلو في المنزل الذي تلطخ الدماء جدرانه زغاريد الشهيد.. ويفاجأ العدو بأن دعوة مهندس الانتفاضة لم تنطفئ برحيله ولا خبت بصمت جسده الجذوة التي أشعلها.. بركان الغضب تفجر حمما.. في يوم مقتله ارتفع القسم بأنه يوم الاستشهاد والنضال والثأر.. غضبة هادرة في كل المدن.. و..في المسجد الأقصي وأماكن العبادة في مدن الضفة والقطاع ترتفع إلي السماء صلاة الغائب علي روح الشهيد.. ويسقط علي الأوراق قلم شاعر فلسطين محمود درويش دمعا ودما: أبوجهاد بشاشة تضحك من أعماق الليل وألفة تصطاد النحل والنمور الشرسة.. أخ للجميع.. أب للجميع وعيد بلا ميعاد.. يعد بالنصر ولا يتمتع بالنصر.. يعد حفل الزفاف ولا يزف. يصنع الحرية ولا يتحرر.. يسقط علي اللحظة القصيرة بين زمنين.. ماذا فعل القتلة؟!.. جرحونا في أوج الصعود إلي الغد والبرتقال.. جرحونا في النخاع.. الجرح عميق وموجع إلي درجة لا نشعر معها إلا بمرارة الحرية, فالحرية ليست قرصا من عسل.. الحرية ليست وردا علي سياج بعيد.. لقد جرحونا لندرك ما لا يدركون, لندرك أنه ليس في وسع العاصفة أن تتوقف في منتصف الصفصافة, جرحونا لندرك أن الانتفاضة هي الوطن والحرية معا.. إن اغتيال خليل الوزير محاولة لاغتيال الانتفاضة, فهل في مقدور الأعداء أن يطفئوا بدم خليل الوزير أريج الانتفاضة؟!.. وتجد الابنة حنان في كلمات ليست كالكلمات تعبيرا عن جيشانها: قتلوك لأنهم خافوا من ثورتك عرفوا أنك ربيت جيلا بعد جيل وعلمتهم أن الحرية طريقها صعب وطويل وأن الوطن بغير سلاح ما بيرجع وأنه الفلسطيني من دمه راح يدفع عرفوا أنك علمتنا أن الإنسان كرامة والكرامة أبدا مابتنداس وأنه اللي بيحاول يدوسها له رصاصة وحجر في الراس أم جهاد من التقيتها في مصر بعد مقتل زوجها في عام1988 كان أطفالها الخمسة لم يزالوا أفراخا يكسوهم الزغب.. الآن في عام2012 وامسكوا الخشب جهاد دكتوراه في إدارة التكنولوجيا, وباسم دكتوراه في الكمبيوتر, وحنان دكتوراه في العلوم السياسية, وإيمان دكتوراه في التمويل, ونضال ابن الثانية عمره الآن22 عاما.. أم جهاد التي ألقي علي عاتقها في عام66 مهمة القائد العام كان لها مع تجربة القيادة ذكري: في عام1966 استشهد اثنان من أبناء فتح هما الشهيدان محمد حشمت ويوسف شعراوي, واعتقل الأخوة السوريون أبوعمار ومن بعده أبوجهاد, ودرت أبحث عن الزوج في كل مكان إلي أن اكتشفت وجوده في السجن العسكري عندما سمحوا لي بالزيارة فوجدت معه في الغرفة أبوعمار وأبوصبري.. وعلي ورقة صغيرة داخل الجدران كتب لي أبوعمار تكليفا بقيادة الحركة في فترة اعتقالهم.. كانت مهمتي شاقة عاونني فيها الشهيد أبوإياد والشهيد أحمد الأطرش, وظل العمل العسكري مستمرا لمدة3 شهور قمت فيها بمهمة القائد العام الذي لا يرتاح ولا ينام.. و..نصيحة إلي أم جهاد التي كانت قد نذرت بأن تقوم بنقل رفات أبوجهاد من مقبرة الشهداء في دمشق إلي فلسطين بعد قيام الدولة المستقلة وليس قبل ذلك بترك الرفات الغالي يرقد في سلام بعدما غدت سوريا كلها مقبرة للشهداء, أما عن العاصمة القدسلفلسطين المستقلة فلنقم الصلاة ونكثر الدعاء ليسدد خطي أبومازن إذا ما ظل مزمعا القيام بخطوته الأولي علي الطريق إلي الأممالمتحدة بعدما كسر باراك الجناح العسكري لحماس باغتيال احمد الجعبري! المزيد من مقالات سناء البيسى