ميادة العفيفي في عالم يتحرك بشكل أساسي وفقا لمفاهيم الربح والخسارة, تتواري مفاهيم الخجل والشرف ويكتسح الفساد جميع أوجه تعاملاتنا اليومية, لقد أصبح إحدي حقائق الحياة, تماما مثل الميلاد والموت, وأصبح العالم وكأنه صندوق كبير للرشاوي. قد يصعب وضع تعريف واضح له, لكن بالتأكيد يمكن لأي إنسان أن يتعرف عليه بمجرد رؤيته, قد تدير رأسك بعيدا عنه وكأنك لم تلاحظه, لكن لورانس كروكروفت, الذي عرف بأنه قائد الحملات الدولية لمكافحة الفساد, يحدد لنا ملامحه بدقة في كتابه الجديد الفساد العالمي: المال والسلطة والأخلاق في العالم الحديث ويصر علي أن تجاهلنا له يعني ببساطة ألا يجد ملايين البشر حول العالم فرصة لحياة كريمة. كروكروفت, أستاذ اقتصاد التنمية البريطاني, رجل كافح الفساد والرشوة الحكومية علي مدار العشرين عاما الماضية, وهو احد مؤسسي منظمة الشفافية الدولية, ورئيسها السابق, تلك المؤسسة التي أثبتت منذ أوائل التسعينيات عن قدرتها علي رصد الفساد الحكومي وكشفه ومطاردته, ووضع تقارير أمام الجهات الدولية تفضح أساليبه المختلفة التي تقوم بها الحكومات ورؤساء الدول ورؤساء مجالس إدارة كبري المؤسسات الدولية, إضافة إلي وضع تصنيف للدول الأكثر فسادا حول العالم, وكيف يؤثر فسادها علي الاقتصاد العالمي ككل. يستعرض في كتابه الجديد, الذي صدر في أواخر شهر سبتمبر من العام الحالي, كيف أن الفساد أصبح احد عناصر السلوك البشري, ومن اجل مكافحته يجب أولا أن يدرك أي إنسان في أي بقعة في العالم, أن ابسط تصرف قد يقوم به مرغما لتسهيل حصوله علي احتياجاته المشروعة, هو مساهمة هائلة وغير أخلاقية في تكريس سلوكيات وثقافة الفساد, وفي حرمان ملايين غيره من الحصول علي حقوقهم الأساسية, يؤكد كروكروفت انه أصبح وباء عالميا, يجب أن يكون لدينا الشجاعة الكافية للاعتراف بأننا قد تورطنا به بشكل أو بآخر, وبان واجب كل فرد مكافحته. ويشير كيف تمكنت الهند وهي واحدة من أكثر دول العالم فسادا حكوميا, وفي إطار محاولتها الأخيرة للخروج من هذا التصنيف الدولي, من خلال إنشاء موقع رسمي باسم دفعت رشوة أن يتيح لمستخدميه توثيق الحالات التي كان عليهم فيها دفع رشاوي لموظفي الحكومة أو كبار المسئولين في الدولة, وقد نجح الموقع في زج عدد من المسئولين في السجون في قضايا رشاوي, كما يشير إلي أن دولة مثل كينيا, يجبر سكان الحضر علي دفع15% من دخولهم في الرشاوي من اجل تسيير احتياجاتهم التي يكفلها لهم القانون, وكيف انه من خلال دراسة استقصائية في سبع دول في غرب أفريقيا, وجد أن40% من الآباء يجبرون علي دفع رشاوي لحصول أبنائهم علي فرص للالتحاق بالمدارس, وكذلك الحال في الهند وباكستان. ويوضح كروكروفت أن الجهود الدولية من اجل مكافحة الفساد, لم تبدأ برغبة حقيقة واهتمام صادق إلا بعد انتهاء فترة الحرب الباردة, وانه تحديدا خلال العشرين عاما الماضية أصبح هناك إلحاح أكبر علي القضاء عليه. لقد تمكن كروكروفت ببراعة, من أن يحدد المحاور الأساسية لمنظومة الفساد العالمي, وكيف تتفاعل مع بعضها البعض, وهي: الاقتصاد غير الرسمي, وتمويل الانتخابات, ودور الشركات متعددة الجنسيات في رفع أسعار السلع أو ما يسميه التسعير التحويلي, والجريمة المنظمة, وهي المحاور الأساسية المشتركة بين العديد من البلدان التي تساعد علي تزايد عمليات الكسب غير المشروع فهو علي سبيل المثال يرصد كيف أن الاستثمارات في أنشطة تجارية غير رسمية, تضيع علي الدول الاستفادة من هذه الاستثمارات الهائلة, إضافة إلي أن حصولها علي تراخيص للعمل يجري من خلال رشاوي تدفع للمسئولين, ناهيك عن كونها لا تخضع للضرائب الحكومية, فعلي سبيل المثال دولة مثل نيجيريا يشكل الاقتصاد غير الرسمي40% من الناتج المحلي الإجمالي, لكنه لا يخضع لأي مراقبة حكومية, ثم يكون الأدهي أن مثل هذه الأنشطة تنتقل من قطاع غير رسمي في دولة, لتصب في الاقتصاد الرسمي لدولة أخري, فنجد في دول مثل نيجيريا والكونغو أن التجارة غير القانونية في مشتقات البترول, التي تهرب إلي الأسواق الأوروبية, تخسر الدولة حوالي1.5 مليار جنية إسترليني سنويا, في حين أنها تدخل إلي الأسواق الأوروبية لتصب في الاقتصاد الرسمي. أما فيما يخص التمويل السياسي, وخاصة تمويل العمليات الانتخابية, فيرصد المؤلف كيف أن تمويل الأحزاب السياسية ووصولها فيما بعد إلي السلطة, يكون من بين شروطه أن تدفع تلك الأحزاب ثمن تمويلها, بصمتها عن فساد هؤلاء الممولين ويستشهد المؤلف بان اكبر فضيحتين لصفقات أسلحة غير شرعية خلال الأعوام الأخيرة, كانتا مرتبطتين بتمويل أحزاب سياسية في كل من جنوب أفريقيا وتنزانيا, مما يرفع من تكلفة تمويل العمليات الانتخابية بدورة مكثفة من الفساد الذي يقوض فرص نمو تلك الدول, ثم يوضح كيف أن الجريمة المنظمة لم تعد مقصورة علي المخدرات, بل شملت أيضا عمليات غسل الأموال التي تتورط بها بنوك عالمية, وتجارة الأدوية المزيفة التي بجانب تأثيرها علي صحة الإنسان, تتلاعب بشكل مرعب في ارتفاع أسعار الأدوية والأمصال حول العالم. يشير المؤلف أيضا إلي أن الفساد العالمي, يلعب دورا محوريا في الإبقاء علي معدلات الفقر المروعة في جميع الدول النامية, إضافة إلي أن الاستغلال المفرط للموارد الطبيعة, في معظم الدول النامية لا يصب إلا في جيوب النخبة الجشعة وشبكات من الشركات متعددة الجنسيات, تتفاعل مع بعضها البعض, تحارب من اجل الإبقاء علي الفساد واستغلال العولمة في خلق منظمات لا تخضع للقانون وإيجاد ما يعرف ب اقتصاد الظل غير المسجل في معظم دول العالم, الذي يساهم في النهاية في سوء ممارسة تسعير السلع في التجارة الدولية, من خلال شراء المسئولين الحكوميين, فيما يعرفه باستثمارات' تحت الطاولة'. يؤكد المؤلف في النهاية أن الفساد يحكم علي الأقل نصف دول العالم, وان من بين163 دولة قامت بمراقبتها منظمة الشفافية الدولية, وجد أن73 منها تقع في فئة الدول الفاسدة, من أبرزها الهند التي تحاول مؤخرا جاهدة أن تخرج نفسها من هذا التصنيف, في الوقت الذي تتهاوي فيه إيران بشدة في هذا الاتجاه, في حين تحتل جمهوريات آسيا الوسطي الخارجة من عباءة الاتحاد السوفيتي السابق, قائمة الدول الأكثر فسادا, وهناك أيضا أفغانستان وألبانيا وانجولا وتشيلي والصين وكولومبيا وبنجلاديش واندونيسيا وفي نهاية القائمة نجد أوكرانيا والولايات المتحدة وفنزويلا وزيمبابوي. أما الدول الأقل فسادا فهي فنلندا وأيسلندا ونيوزيلندا في المقدمة تليها الدنمارك وسنغافورة والسويد. وفق المؤلف فان الفساد يأخذ أشكالا مختلفة, لكن المعايير الخاصة بمنظمة الشفافية الدولية, تركز بصفة خاصة علي الفساد الذي يتورط فيه رجال الشرطة والنظام القضائي, وكبار المسئولين الحكوميين وأسرهم, وللأسف فان الدول التي تعاني من هذا النوع من الفساد, هي الأقل قدرة علي التعامل مع عواقبه, إنها الدول الأكثر فقرا وحرمانا, مثل كمبوديا, حيث يكسب ثلثا السكان اقل من دولارين في الشهر في حين يحصل الثلث الآخر, علي اقل من دولار واحد, والأدهي أن المساعدات الدولية التي تقدم لمثل هذه الدول في أفريقيا واسيا الوسطي وأمريكا اللاتينية, يذهب نحو600 مليون دولار منها في اتجاهات غير رسمية أبرزها التجارة غير الشرعية.