مع الشعور الطاغي لدي المصريين بأنهم يستحقون حياة أفضل, وأنهم ليسوا أقل ممن سبقهم من الأمم تمثل النهضة أملا يحدوهم علي اختلاف توجهاتهم السياسية والفكرية وهو ما عبروا عنه في صورة مطالبات ومشروعات, ولكن للنهضة شروطا ومتطلبات لا يبدو من واقع الحال أننا استوفيناها, أو في طريقنا لاستيفائها. لا تعد مقومات وتوقعات التقدم الاقتصادي سرا بل أصبحت كالمعادلة الجبرية التي إذا عرف أحد طرفيها عرف الآخر حتما ولم يعد الأمر نظريا فقط بل تؤكده تجارب الدول الناهضة علي اختلاف ثقافاتها من الهند الهندوكية إلي البرازيل المسيحية إلي تركيا المسلمة التي حصدت نتائج ما زرعت من مقدمات للنهضة تتمحور حول التراكم الرأسمالي المادي والبشري, والذي يبدأ باقتطاع المجتمع جزءا من دخله وادخاره, ثم تحويل المدخرات إلي استثمارات لزيادة مخزون المجتمع من الآلات والمعدات والطرق والمطارات والموانيء وغيرها من البني المادية الأساسية التي توفر البيئة اللازمة لقيام المشروعات برأسمال وطني أو أجنبي, وكذلك للتعليم والتدريب لتحويل المواطن من عبء إلي عامل منتج, وما يصاحب ذلك من إعداد البني التشريعية والقانونية التي تكمل البيئة اللازمة للاستثمار, فأين نحن من كل ذلك؟ من الضروري بديهيا توافر الأموال اللازمة لتمويل التراكم الرأسمالي, ولكن السياسات الاقتصادية المتبعة تدفع الأمور عكس هذا الاتجاه, فالسياسة المالية للدولة تمثل عائقا كبيرا أمام تدبير التمويل اللازم للاستثمار, فمن ناحية تقف الدولة عاجزة عن زيادة إيراداتها بدرجة كافية حيث يبلغ إيراد الضرائب نحو16% من الناتج المحلي الإجمالي, وهي نسبة متدنية جدا مقارنة بالدول الأخري كألمانيا مثلا ونسبتها40% وإسرائيل37%, ويعود ذلك أساسا إلي عدم حصر المجتمع الضريبي فكل أنشطة الاقتصاد غير الرسمي تقريبا, والتي تقدر بنحو نصف الاقتصاد الرسمي لا تخضع للضرائب بالإضافة إلي ضعف قدرات التحصيل, وإعفاء إيرادات بعض الأنشطة من الضرائب كالأرباح المحققة من مضاربات البورصة, وفي ظل مناخ عام يسوده الاعتقاد بأن التهرب من الضرائب ليس جريمة بل مهارة, ومن ناحية أخري تستنزف المصروفات الجارية, وأهمها الأجور والدعم وفوائد الدين العام إجمالي إيرادات الدولة وتتعداها مما لا يترك فائضا للاستثمار ويزيد من حجم الدين العام ويدفع الدولة للمزيد من الاقتراض. وبالرغم من أن الادخار يعد من أهم متطلبات التقدم الاقتصادي فإن نسبته في مصر متدنية جدا تبلغ نحو17% من الناتج المحلي الإجمالي في حين تبلغ34% في الهند علي سبيل المثال, ويعود ذلك ليس فقط لضعف مستوي دخول غالبية الأفراد, ولكن أيضا لانخفاض معدل أسعار الفائدة علي المدخرات عن معدل التضخم ولزيادة الاستهلاك الترفي الذي تشجعه سياسات الإقراض في البنوك, هذا بالإضافة إلي ضعف آلية تحويل المدخرات إلي استثمارات, فأهم أداتين لذلك التحويل هما سوق رأس المال التي يكاد ينحصر نشاطها في السوق الثانوية التي لا تمثل إضافة بل انتقال لملكيات الشركات القائمة وتغلب عليها المضاربات والبنوك التي توظف نحو نصف الأموال المتاحة لديها بعيدا عن الأنشطة الإنتاجية فتوظف نحو36% من ودائع العملاء في أذون الخزانة, و11% في قروض استهلاكية( في نهاية يونيو2012). أما العمالة فبالرغم من أن قطاعات واسعة منها لم تنل ما يكفي من التعليم والتدريب فقد أصبحت هناك أعداد ضخمة تصنف كمتعلمين, فارتفع بالتالي سقف توقعاتهم, وبدلا من تهيئة المناخ والبنية اللازمة لقيام مشروعات تستوعبهم كعمالة منتجة لجأت الدولة إلي تعيين الكثيرين منهم بالمؤسسات الحكومية في وظائف لا حاجة لها حتي زاد عدد موظفي الجهاز الإداري للدولة علي ستة ملايين يمثلون أكثر من ربع القوة العاملة وهي من أعلي النسب إن لم تكن الأعلي في العالم, وما زالت الدولة تستجيب لمطالب تعيين جديدة لن تؤدي إلا لزيادة البطالة المقنعة, وزيادة المرتبات التي هي في حقيقتها إعانة بطالة تزيد بدورها من الضغط علي الموازنة العامة فيزداد العجز, وبالتالي الاقتراض وبالتالي التضخم فيما يشبه دائرة مفرغة تزداد عمقا مع مرور الوقت. والخلاصة أن واقعنا يشير إلي أن لدينا تركة مثقلة بالقصور الشديد في العمل والادخار وتحصيل الضرائب, وتوظيف الموارد زاد عليها ما تفجر لدي الكثيرين من طاقات هدم وليس بناء, وهذه ليست سمات أمة تنهض بل أمة تنتحر, ويصبح الواجب هو تصحيح مسارها بسياسات مؤلمة للبعض من أجل صالح الكل, فحين يكون الوطن في خطر يصبح الواجب هو الحسم والشدة للإنقاذ, وليس التسويف والهدهدة للاسترضاء. المزيد من مقالات جمال وجدى