يتفق معظم الاقتصاديين علي الرابطة الوثيقة بين النمو الاقتصادي والاستثمار, واعتبار الأخير أحد أهم محددات ذلك النمو, مما يبرز الأهمية القصوي للادخار المحلي الإجمالي الذي يوفر التمويل اللازم للاستثمار, وضرورة الارتفاع بذلك الادخار بقدر الإمكان. أخذا في الاعتبار ان ارتفاع معدلات الادخار المحلي كان أحد أهم عناصر التقدم الاقتصادي المثير الذي تحقق في بعض دول شرق وجنوب آسيا في العقود الأخيرة. وعلي الجانب الآخر يعاني الكثير من الدول من تدني الادخار المحلي كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي, وتقع مصر ضمن مجموعة الدول تلك, حيث بلغ متوسط هذه النسبة خلال الأعوام المالية العشرة الماضية15% تقريبا, في حين تراوحت هذه النسبة بدول الاقتصادات الناشئة بشرق وجنوب آسيا بين30% و50% تقريبا خلال نفس الفترة, وعلي الرغم من ذلك فقد بلغ متوسط نسبة الاستثمار الي الناتج المحلي الاجمالي خلال العقد المشار اليه نحو19%, أي ان الادخار المحلي أمكنه تمويل نحو79% فقط من إجمالي الاستثمار, وهذا الفارق بين الادخار المحلي الإجمالي والاستثمار يمثل فجوة في الموارد المحلية بلغ متوسطها خلال العقد الأخير3.7% من الناتج المحلي الإجمالي تم تمويلها عن طريق تدفقات رأس المال من الخارج. ولكن مشكلة الاستثمار في مصر لا تقتصر علي ضعف الادخار المحلي فقط, بل تفاقمها آلية تحويل المدخرات الي استثمار, وهي المهمة التي يفترض أن يقوم بها الجهاز المصرفي وسوق رأس المال, ولكن دور الاخير مازال محدودا بدرجة كبيرة نظرا لأن السوق الثانوية التي يجري بها تداول الأوراق المالية هي الجاذبة للغالبية العظمي من المدخرات الموجهة لهذه السوق, والتداول لا يعدو كونه تغييرا في الملكية ولا يمثل استثمارا حقيقيا, وبالتالي يقع العبء الأكبر لهذه الآلية علي الجهاز المصرفي, ولكن الواقع يشير إلي عدم قيام الجهاز المصرفي بدوره كاملا في هذا الشأن لسببين خاصين بنمط توظيف الموارد المتاحة, أولهما عدم إقراض جزء كبير من الأموال المتاحة, وثانيهما التوسع في الإقراض الاستهلاكي مما يمثل تعطيلا للموارد المحدودة أصلا من المدخرات, ويتضح ذلك من أرقام المركز الإجمالي للبنوك( بخلاف البنك المركزي) التي تظهر فجوة بين حجم الودائع وحجم الإقراض, حيث بلغ رصيد الإقراض والخصم في نهاية العام المالي الماضي466 مليار جنيه أي52% فقط من إجمالي الودائع البالغ892 مليار جنيه في ذات التاريخ. وكانت النسبة83% في نهاية يونيو.2001 كما يمثل الإقراض الموجه للقطاع العائلي الذي يمول شراء سلع استهلاكية بالأساس19% من اجمالي أرصدة الإقراض, والخصم وكانت نسبته أقل من31% عام.2001 وتوظف البنوك الأموال المتاحة لدي بنوك اخري بمصر والخارج بما فيها البنك المركزي وفي أذون الخزانة المصدرة لسد جزء من العجز الحكومي الناتج بدوره أساسا عن الانفاق الجاري الذي مثل في العام الماضي88% من إجمالي الانفاق الحكومي. هذا وتؤكدا أرقام العام المالي الماضي نفس النتائج, حيث زادت الودائع بنحو83 مليار جنيه كان يمكن للبنوك ان تقرض منها71 مليار جنيه بعد استبعاد نسبة الاحتياطي, ولكنها أقرضت36 مليار جنيه فقط, أي أن الموارد غير المستخدمة في الإقراض تبلغ35 مليار جنيه بما يساوي60% من فجوة الموارد المحلية خلال ذلك العام, وبعبارة أخري فإنه كان يمكن سد جزء كبير من فجوة الموارد المحلية يمكن ان يصل الي60% منها, أو يمكن زيادة حجم الاستثمار بتلك القيمة مع الحفاظ علي نفس مستوي فجوة الموارد المحلية, وذلك لو قامت البنوك باستخدام الموارد المتاحة في تمويل الاستثمار, وتزداد إمكانات تغطية فجوة الموارد المحلية بإعادة توجيه جزء من إقراض القطاع العائلي الي قطاع الأعمال بغرض الاستثمار. ولا يقتصر الأثر السلبي لتلك الممارسة المصرفية علي تقليل التمويل المتاح للاستثمار فقط بل يمتد ذلك الأثر بطريقة غير مباشرة الي زيادة عجز الموازنة العامة للدولة, حيث ان انخفاض نسبة القروض الي الودائع يزيد السيولة بالبنوك مما يضطر البنك المركزي لامتصاصها في إطار تنفيذه للسياسة النقدية عن طريق الودائع لأجل أو ودائع الليلة الواحدة, فتمثل العوائد المدفوعة علي تلك الودائع تخفيضا لأرباح البنك المركزي التي تئول في النهاية الي الموازنة العامة, كما تمتد الآثار السلبية أيضا الي ميزان المدفوعات بزيادة المدفوعات الناتجة عن تحويل الأرباح المحققة علي الاستثمار الأجنبي إلي الخارج خاصة أرباح تلك الاستثمارات الموجهة لقطاعات غير مدرة لإيرادات بالنقد الأجنبي, كالاستثمار في البنية التحتية والتجارة الداخلية والصناعات غير التصديرية. ويشير ذلك كله إلي أن البنوك العاملة في مصر وأغلبها مشتركة وخاصة أو فروع لبنوك أجنبية تزيد التركيز علي التوظيف في أذون الخزانة والودائع طرف البنك المركزي, بالإضافة الي التوسع في الإقراض الاستهلاكي, والهدف الأول للبنوك هو الربح وكيفية تعظيمه وهو أمر طبيعي باعتبار البنك مؤسسة تهدف الي الربح, ولكن تحقيق الأرباح وتعظيمها يجب ألا يتم علي حساب الاستخدام الأمثل للموارد خاصة أن هدفي الربح وتمويل الاستثمار ليسا متناقضين بدليل قدوم رأس مال أجنبي وجد بيئة مناسبة للاستثمار وتحقيق أرباح أعلي مما يمكن تحقيقه في بلاد أخري, أما استمرار الممارسات الحالية للائتمان فهو أمر وإن كان لا يخالف أي قواعد قانونية أو تنظيمية سارية إلا انه يخالف حاجة البلاد لتوجيه المدخرات الموجهة التي تتفق مع احتياجات الاقتصاد الوطني, ففي الوقت الذي لا تحسن فيه البنوك توظيف الأموال المتراكمة لديها نجد الاستثمار متعطشا لمصادر التمويل الذي يأتي من الخارج في صورة تدفقات لرأس المال وهي بطبيعتها غير مستقرة وتخضع للتقلبات في أسواق المال العالمية والتقلبات السياسية, الأمر الذي يجعل تحقيق معدلات النمو المستهدفة مرهونا بغياب تلك التقلبات السياسية وهو أمر مستبعد, فيبدو الاقتصاد الوطني كالباحث عن شيء موجود بالفعل بين يديه أو كالعير في البيداء يقتلها الظمأ والماء علي ظهورها محمول.